الجريمة.. والثقافة!

يونس صالح:

الشرقي يقتل باسم القبيلة.. والغربي يقتل باسم العقيدة.

إذا قتلت باسم الرب، فأنت مبرر لك والله غفور رحيم، وإذا قتلت باسم الحزب فأنت ثائر، أما إذا قتلت باسمك الشخصي فأنت مجرم. وفي المجتمعات العربية كان القتل وما يزال يمارَس باسم القبيلة، فيما يعرف بجرائم الثأر، وجرائم الشرف، وكانت العقيدة التي تمنح هذه الجرائم غطاء (شرعياً) تستمد قوتها من العرف والعادة والثقافة السائدة، وكانت القوانين الجنائية المدنية ومازالت في الأردن ولبنان وسورية لأمد غير بعيد، تمنح مرتكبي جرائم الثأر وجرائم الشرف أسباباً تخفيفية تراعي العرف السائد، أما إذا رفعت القبيلة أو العشيرة غطاءها عن القاتل وأعلنت براءتها منه، فإنه يتحول إلى مجرم وعدو للمجتمع بدلاً من أن يكون ممثلاً لقانون القبيلة ويعمل في خدمة (مجتمعه).

كانت الجريمة إيديولوجيا، وكان القانون المدني يعمل لتكريس هذه الإيديولوجيا.

وقد استفادت الأحزاب الحديثة من هذا التراث الشعبي، فأقامت محاكمها الميدانية وأصدرت أحكامها سراً وعلناً، باسم الشرعية الحزبية، وتحول القتلة إلى شعراء ومناضلين وحملة أوسمة.. كما أن هذا التراث ازداد غنى مع صعود (الجماعات الإسلامية)، فقد باتت (الفتوى) مثل الوجبات السريعة، هي البديل عن المحكمة، وصارت الجريمة ترتكب باسم الرب، بعد أن كانت ترتكب باسم الحزب، وصارت تزعم شرعيتها من السماء وليس من الأرض.

ولعل العراق، بعد ثورة 1958كان هو الرائد في تأسيس هذه المحاكم الميدانية، ومع اندلاع الحرب الأهلية في لبنان تطورت هذه المحاكم القبلية الأمنية والحزبية والشعبية والشرعية، وبات القتل يسبق صدور الحكم أو الفتوى. إن الجريمة وبضمنها الاغتصاب لم تعد مسألة شخصية، بل أداة سياسية وإيديولوجية.

ولأن الحكومات العربية في معظمها تتعامل مع الجريمة، باعتبارها من الأسرار الأمنية والعسكرية، فليست هناك إحصاءات رسمية منشورة تساعد على قياس عدد الجرائم (الشخصية) ونسبها إلى الجرائم الإيديولوجية، إلا أن الباحث يمكن أن يقرر ومن غير صعوبة أن الثانية هي السائدة.

لقد رفض الرئيس شكري القوتلي أن يوقع على تنفيذ حكم الإعدام باثنين من القتلة، وقال إن والدته أوصته قبل وفاتها أن يرفق بالناس وألا يضع توقيعه على حكم بالإعدام، وهو ما استغله الزعيم حسني الزعيم الذي انقلب على القوتلي ووصفه بأنه (جبان)، حتى القصاص الشرعي كان نادراً، وهو ما يعبر عن الإيديولوجيا المسالمة التي كانت تسود المجتمع السوري في تلك الفترة.

النموذج الغربي لهذا القتل تحت خيمة الإيديولوجيا هو أكثر تعقيداً، فالمجتمعات المدنية في الغرب اختارت الديمقراطية لحمايتها من وحوش السلطة من ناحية، ومن وحوش (التطرف) من ناحية ثانية، وصاغت شعار (كل متهم بريء حتى تثبت إدانته) في عشرات التشريعات والقوانين التي تسهر على تطبيقها مؤسسات تمثيلية، ولأن تراث محاكم التفتيش التي تقضي بالحرق على النية، وبالصلب على الهوية المذهبية، كانت هي التراث الغربي المشابه لجرائم الشرف وحروب الثأر الشرقية، فقد اختارت المجتمعات الغربية الفصل بين الدين والدولة، لتحفظ حق المواطن في أن يختار عقيدته، وأن يعبر عن أفكاره بعيداً عن العنف أو التهديد، سواء جاء من رجال أمن الدولة، أو من قبل رجال منحوا أنفسهم سلطة إصدار الأحكام على الاخرين باسم الخلية الحزبية، أو باسم العناية الإلهية، ولكن ولأسباب تختلف في تفسيره المدارس السياسية، فقد جاء الحصاد مراً، وأينعت عناقيد الغضب كما القتل في حقول الغرب، وفي أمريكا بالذات، وباتت المدن الكبرى تكتب تاريخها بالدم.

ونقرأ هذه الأرقام التي وردت في دراسة صدرت عن وزارة العدل في الولايات المتحدة، تقول الدراسة إنه في عام 2010 وحده وقعت في الولايات المتحدة 4 ملايين و400 ألف جريمة قتل واغتصاب وسرقة استخدم فيها السلاح، من بينها 24 ألفاً و500 جريمة قتل، وأن 33 مجرماً فقط تم تنفيذ حكم الإعدام فيهم.

كما أن هناك مليوناً ونصف المليون مجرم كانت تضمهم السجون الأمريكية حتى ذلك العام.

ونقرأ في دراسة أخرى عن (ثقافة السلاح) أن جرائم المراهقين تزداد بسرعة قياسية، وأن هذا المراهق يقتل من أجل شراء حذاء رياضي، أو من أجل الحصول على سترة جلدية شاهد أحدهم يرتديها، أو من أجل (المغامرة) وتردد الدراسة عشرات النماذج من الحياة اليومية الأمريكية.

ولقد أقرت ولاية فرجينيا على سبيل المثال قانوناً يسمح لأبناء الولاية بأن يحملوا سلاحاً مخفياً للدفاع عن أنفسهم، وبعيداً عن الأحداث الكبرى التي تعج بالمجتمع الأمريكي بصورة واسعة، فإن الجرائم اليومية هي ما يمنح مستنقعات الدم وهويتها وعقيدتها، وتكشف عن المغاور الثقافية والكهوف السياسية التي تخلق قوى الجريمة، وعلى أعمدة هذا الخوف يبني الحزب الجمهوري كما الديمقراطي هيكله وبرنامجه السياسي، وخطابه الثقافي، ومع الحزبين يتم تسخير الجريمة، لخدمة الإيديولوجيات أو بالعكس.

 

العدد 1105 - 01/5/2024