تعب سنواتٍ وجهد عمرٍ.. لا يحقّ لأحد أن يسخر منه

إيناس ونوس:

منذ الطفولة المبكّرة يحلم الإنسان بامتلاكه أرقى الشهادات وحصوله على أفضل المراتب العلمية بين أقرانه، لما لهذه الشهادات من مكانة مرموقة على الصعيدين العلمي والعملي لاحقاً، وحتى على الصعيد الاجتماعي، ولولا هذه المكانة لما كان ذاك التمايز المعروف للجميع بين الفروع الجامعية.

ومع إدراكنا التام وقناعتنا بأن الشخص المُجِدَّ والمثابر، والناجح لاحقاً في عمله، والمتفوّق على أقرانه، هو من يعطي هذه الشهادة أو تلك قيمتها وأهميتها، غير أنه لا يمكننا أن ننكر أن الإنسان كلما ارتقى بعلمه وحصل على المزيد من العلم وامتلك الشهادات العليا، تمكّن من بناء شخصية متمكّنة علمياً ومهنياً واجتماعياً، ما سينعكس بالضرورة على حياته الخاصة وعلى محيطه ومن ثم على المجتمع برمته.

إلاّ أننا وصلنا اليوم إلى مرحلة من التقهقر وانحدار في التفكير لدرجة كبيرة، منطلقها التعبير الشعبي الدارج بأن (الشهادة ما بتطعمي خبز)، اعتماداً على معيشة الطبيب أو المهندس مثلاً الذي يعمل في قطاعات الدولة ويحصل على راتب متدنٍّ لا يتناسب مع قيمة عمله أو الجهد الذي بذله خلال دراسته أو الذي يبذله لاحقاً في حياته العملية، وهذا ما تتحمّل مسؤوليته الحكومات التي ساهمت في وصول الوضع إلى ما هو عليه اليوم، من انعدام فرص العمل والحاجة الماسّة للعمل في أي مجال يمكنه أن يدرَّ على الإنسان المزيد من المدخول كي يتمكّن من تلبية متطلبات معيشته، غير أن هذا الوضع بالرغم من سوداويته وقسوته لا يمكنه أن يكون مبرراً لأحد ليهزأ من الشهادة ومن الحاصل عليها، كما تبيّن في أحد المنشورات الموجودة على إحدى صفحات التواصل الاجتماعي حينما يعرض أحدهم فرص عمل على الشباب والشابات طالباً مهندساً/ةً للعمل في بيع الألبسة، ولم يقتصر الأمر عند هذا، بل يأتي ليؤكد سخريته تلك بقوله إنه لا يعرف من الرابط بين الشهادة وفرصة العمل تلك إنما هدفه تقديم خدمة!!

من المؤسف والمثير للاشمئزاز أن نصل إلى هذه الدرجة من السخرية والاستهزاء بالشهادات وبحامليها من قبل أشخاص حالفهم الحظ وورثوا عن أهلهم حالة مادية جيدة تميّزهم عن غيرهم، فظنّوا أنهم بأموالهم يمكنهم أن يستغلوا حاجة الآخرين، وأن لهم كامل الحق بالسخرية من غيرهم ممّن حصلوا على مستوى علمي لم يحصلوا عليه هم.

ما يؤلم في الأمر حقيقةً عدم وجود رادع أخلاقي ولا اجتماعي ولا حتى قانوني يحمي أصحاب الشهادات من تلك السخرية، بل إن الوضع المعيشي المتردي في ظلِّ الغلاء المُستشري وعدم القدرة على تلبية متطلبات الحياة اليومية البسيطة لشباب قد يكونوا مُعيلين لأهلهم ومُطالبين بما هو فوق طاقاتهم، يساهم في وجود المزيد من أولئك الأشخاص المريضين نفسياً، والذين يظنّون أنه بإمكانهم شراء الآخرين بأموالهم الطائلة، ولا من رقيب أو محاسب.

ألا يكفي جيل الشباب الذي يحارب معتركات الحياة بكل جدارة كي يصمد ويقف على قدميه كل ما يعايشه يومياً!؟ أم أن الذل والاستهانة بقدراته يجب أن تتنوّع وتتلوّن أكثر فأكثر!؟ وأين القانون الذي عليه أن يحميهم من سخرية كهذه؟ أين النقابات ممّا يحصل اليوم؟؟

للأسف، كل هذه التساؤلات لا جواب لها، فكل من ذُكروا يغطّون في نومهم العميق، وإن استفاقوا فمن أجل أن يحصّلوا بعض المكاسب الشخصية ليس غير، وما عليكم أيها الشباب إلاّ أن تقاوموا وحدكم وترفضوا كل من يعطي لنفسه الحق بالاستهزاء منكم، وأن تثبتوا للجميع أن ما تعبتم من أجله سنوات طويلة يستحق الاحترام ورفع القبّعة.

العدد 1104 - 24/4/2024