بين الألفة والتوحش.. هل تبادلنا الأدوار؟!

حسين خليفة:

استسلمتُ أخيراً للأمر الواقع، قبلتُ بوجود قطّ في المنزل، بعد أن حدث إجماع بين الأولاد وامتناع عن التصويت لأمهم، على دخول هذا الكائن الذي أستهجن وجوده في المنزل بسبب الصورة المكرّسة في وعينا عن خطورته على النظافة والصحة.

كان الحل الوسط أن يسكن حديقة المنزل مع (تأثيث) منزل له على حافة نافذة المطبخ ليبقى على تماس مع روائح الطعام ويطمئن على غذائه القادم.

كان (ريو) هو أول حيوان أليف يدخل المنزل، كنت أغضب من (تجاوزاته) ودخوله المفاجئ الى المنزل حالما يفتح باب المنزل هارعاً إلى المطبخ طبعاً، وقمت مرات بمحاولة ثنيه عن هذه العادة بركله ركلاً خفيفاً، وكان يخاف فعلاً لكنه يعيد الكرّة دائماً دون أن يحدث أي ضرر، فقط ليستكشف احتمالات طعامه القادمة عن كثب.

بمرور الوقت اكتشفت أني أيضاً ألفتُ هذا المخلوق الجميل، أطعمه إن غاب الأولاد عن المنزل ممّا يتوفر من طعام خاص به أو من طعامنا أحياناً، حين أراه (يتعمشق) على نافذة المطبخ مصدراً مواءً متواصلاً، صرت أحادثه أحياناً إن لم أجد ما أطعمه طالباً منه الصبر إلى حين عودة أصدقائه.

انضم الى (ريو) لاحقاً ثلاث قطط صغار ولدوا وعاشوا في سبات ونبات برعاية الأولاد وصار لهم مسكن آخر مع أمهم.

لكن بقي ريو الصديق الأقرب، كان يغيب في الجوار ثم يعود، حتى أخبرني الأولاد يوماً أن ريو قد مات لسبب مجهول، ربما كان تسمّماً غذائياً، وكنت خارج البيت، حزنت عليه رغم كل معارضتي لوجوده، وما زلنا نذكره في مواقف وحالات.

الآن كبر الصغار الثلاثة وصاروا أصدقاء للجميع عداي، رغم أني أطعمها أحياناً، أمازحها أحياناً، أصور فيديوهات لطيفة لبعضها، لكني كجيل لم يألف هذه الظاهرة ما زلتُ على توجسي منها.

في حالتنا هذه ليس الأمر فراغاً فحسب، رغم أنه لا يخلو الأمر من عزلة حتى بين أفراد العائلة مردّه إلى سيطرة وسائل التواصل على اهتمامات الأفراد وانعزالهم عن محيطهم العائلي والاجتماعي، لكنه أصبح أقرب إلى عرف سائد كما أرى، فوجود قطة أو كلب في البيت بدأ يتحول الى عادة لدى الكثير من العائلات، حتى المتوسطة والفقيرة أيضاً، حيوانات لطيفة نظيفة تعوّدت على نظام معيّن في المأكل والمشرب وقضاء الحاجات واللعب مع الجميع وتلطيف الأجواء في المنزل.

لا يمكن أن نعزو الظاهرة إلى سبب وحيد، فهناك مجموعة من الأسباب، منها التقليد، الهروب من عزلة زمن صعب تحوّلت العلاقات فيه إلى تبادل مصالح ومنافع تنتهي بانتهائها، وغابت أو كادت تغيب العلاقات القائمة على المودة والمحبة والالتقاء الفكري.

درجت مؤخراً مقولات ودراسات تقول بأن اقتناء كلب أو قطة يمكن أن ينعكس إيجابياً على صحة أصحابها، وذلك بعكس الأفكار السائدة عن خطرها على الصحة، وتضيف هذه الدراسات إن تربية حيوان أليف يمكن أن يقلّل مخاطر أمراض القلب وتخفف الشعور بالوحدة والاكتئاب والخرف.

وهذه الفكرة قريبة إلى الحقيقة كما أرى، لأن أمراض القلب والتوتر والاكتئاب تعود في جزء مهم منها إلى الضغوط الناتجة عن العزلة والضجر، ووجود حيوان أليف في المنزل يخفّف من هذه المشاعر.

هل هناك عامل وراثي يؤثّر على اهتمام الشخص أو عدم اهتمامه بالحيوانات الأليفة؟!

تعود علاقة الإنسان مع الحيوان إلى بدايات وعي الإنسان لأهمية ترويض الحيوانات وتحويلها من برية متوحشة إلى أليفة مع أواخر العصر الحجري القديم وبدايات العصر الحجري الجديد منذ ما يقارب خمسة عشر ألف عام، عندما بدأ بتربية المواشي، تؤكّد ذلك مقارنات فحوص الحمض النووي للحيوانات المروضة والبرية اليوم.

طبعاً كانت البداية للاستفادة منها في إنتاج الغذاء والكساء والتنقل والحماية أحياناً، ثم أضيفت إليها في العصور التالية تربية الحيوانات المنزلية لحمايتها وبناء نوع من العلاقة الأليفة معها.

إذاً، هي ليست صرعة وإن بدت عندنا كذلك بسبب إرث ديني بالدرجة الأولى كرّس النظرة إلى تلك الحيوانات بوصفها نجاسة، والاقتراب منها مُسبباً للأمراض وغضب الرب، بل هي _أقصد تربية الحيوانات الأليفة_ فطرة إنسانية ترى الكائن نظيراً للإنسان في بعض جوانبه مع تميّز الإنسان بالعقل والإبداع، وتميّز الحيوانات عن الإنسان بنسبة توحش أقل بعد أن كشفت الحروب والسجون والصراعات العرقية والدينية، تفوق بني البشر على الوحوش الضاريات، على قول أسعد خرشوف في (ضيعة ضايعة).

وطبيعي أن تنتشر تربية الحيوانات الأليفة في العالم المتحضّر نتيجة شيوع قيم الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان والحيوان، فيما بقينا حتى تاريخه نعتبر أي محاولة للدفاع عن حقوق الإنسان الأساسية في الحياة والسكن والتعليم والعمل والرأي عمالة للخارج، وخدمة للأجندات المعادية، كما هو معروف ومتّبع في بلاد العرب والإسلام، للأسف. فكيف سيدافع إنسان مقهور مغلوب على أمره جائع مشرّد مقموع جاهل، يسكن كهوف القرون السالفة فكرياً، كيف سيدافع أو يفكّر مجرد تفكير في حقوق الحيوان، فيما حقوقه كلها مهضومة ومسروقة من قبل أباطرة الثالوث المتحالف (سلطة، دين، مال) الحريص والمستميت من أجل إبقائه رهينة بيدها لاستمرار استغلاله والسيطرة عليه؟!

 

العدد 1104 - 24/4/2024