حديث مع غسان غنّوم حول الثورات والكهرباء

عبد الرزاق دحنون:

قبل رحيله إلى مدينة اللاذقية على الساحل السوري وموته هناك بعيداً عن ناسه ومسقط رأسه، كان يزورني ويجلس لساعات عديدة في مكتبتي، في زقاق المسيحين قرب كنيسة الروم الأرثوذكس في مدينة إدلب في الشمال السوري. كنّا نتحدث في مختلف شؤون البلاد والعباد. وبما أنه كان يمتلك وعياً معرفياً عالياً ومتقدماً عن أترابه، ولا يؤيد العنف على الإطلاق، فقد اختلفنا اختلافاً واسعاً حول مفهوم الثورات: كان مع الانتقال السلمي من مرحلة إلى مرحلة ولا يؤيد العنف الثوري بأشكاله المتعددة، وقد ترجم لي نصاً عن الفرنسية للمفكر والكاتب الفرنسي ريجيس دوبريه يتعلق بهذا الأمر يقول فيه:

(إن إحدى مفارقات الثورات أنها تؤدي إلى إبطاء سير الأشياء، بعد تسارع كبير في البداية، قبل أن يتحول لاحقاً إلى منظومة مكابح ثقيلة. هناك في الثورات مناسبات كثيرة للفرح والبهجة، ولكن أيضاً للحزن والعزاء، وعلى المدى الطويل تتحول البهجة إلى مرارة، وأحياناً كثيرة إلى كوابيس. الثورات التكنولوجية فقط، تشذُّ عن هذه القاعدة، لأن لا عودة فيها البتة إلى الوراء. لن نعود إلى الشمعة بعد أن اخترعنا الكهرباء، ولا إلى السفن الشراعية بعد أن ابتكرنا المحركات. الإنترنت غيّر وجه العالم. هنا تقبع محركات التاريخ الحقيقية الضامنة الوحيدة لتقدم لا رجعة فيه إلى الوراء، سواء كان جيداً أو سيئاً).

ريجيس دوبريه صاحب خبرة كبيرة في هذا الشأن وقد كان رفيق فيدل كاسترو وأرنستو تشي غيفارا، وله كتاب مشهور سماه (ثورة في الثورة) ترجمته إلى العربية دار الآداب في بيروت في ثمانينات القرن العشرين عن التجربة الكوبية. وتراني أتفق معه في الرأي لأن الثورات مثل الكهرباء تُنير لنا الوجود، فينكشف حالنا وتظهر عيوبنا كلها دفعة واحدة.

بعد ترجمة ما قاله ريجيس دوبريه تذكرت حكاية قرأتها في مجلة الفيصل في العدد المزدوج 405-406 آذار (مارس) 2010 بعنوان (الفاقة) من تأليف الكاتب الروسي الساخر (ميخائيل زوشينكو) كتبها عام 1925 وترجمها عن الروسية السوري هشام حمادي، وقد قرأتها لصاحبي المترجم غسّان غنّوم -رحمه الله- فأعجبته جداً، وحفظها عن ظهر قلب، فله ذاكرة فسيحة، فهو يُجيد الفرنسية والإنكليزية والبلغارية كأهلها -في ستينيات القرن العشرين درس الزراعة في جمهورية بلغاريا الاشتراكية على حساب والده المحامي المشهور أنطون غنّوم، ثمَّ ذهب إلى مونتريال في جامعة (مكغيل) للحصور على الدكتوراه في الزراعة- ناقشني في موضوع قصة الروسي الساخر (ميخائيل زوشينكو) وقال إنها تعادل طنّاً من الأفكار، إذ تجد فيها تلك التأثيرات التي تنطبع في الذاكرة البشرية فتحرضها على التذكّر والانتباه الدائم واليقظة، إنها أبدع وأفيد ما يمكن أن تقرأه في الحياة. ووجدت أنه قد نسخها بين أوراقه بعد أن استعار مجلة الفيصل من مكتبتي التي نشرت القصة ووجدتُ أيضاً أنه أجرى تعديلات على الترجمة الأصلية التي قام بها المترجم هشام حمادي. وهذا ما وجدته بين أوراقه التي تركها عندي:

الفاقة | قصة قصيرة من تأليف الكاتب الروسي الساخر ميخائيل زوشينكو

ما الكلمة الدارجة الآن أيها الرفاق؟ لا شك أن الكلمة التي تدور على كل شفة ولسان هي الكهرباء. ولا يختلف اثنان على أن كهربة البلاد أمر في منتهى الأهمية. ولكن ما زال لهذا الأمر جوانبه غير المضيئة. لستُ أقصد -يا رفاق- أن الثمن مرتفع. كلا فهو ليس بأغلى من النقود، ولكن ما أقصده شيء آخر، وإليكم بيت القصيد:

حتى الأمس القريب كنتُ أعيش -أيها الرفاق- في بناء ضخم، لا يُضاء إلا بالكيروسين. بعض الناس يستخدم القنديل القديم، وبعضهم الآخر اقتنى القنديل الحديث، بينما لا يزال آخرون يستخدمون الشموع، يا له من بؤس!

وفجأة بدأ تمديد الكهرباء إلى البيوت. كان المفوَّض أول من مدَّد الكهرباء إلى شقته، ولكنه لم يكد ينير بيته بالكهرباء حتى طرأ تغير كبير على سلوكه، فلسبب ما أصبح مهموماً كثير التأمل والشرود، ومع ذلك لم ينبس ببنت شفة، ولم يشكُ أو يتذمّر. لم تلبث عدوى الكهرباء أن أصابت بليزافيتا بيتروفيتا صاحبة الشقة التي أسكن فيها. وفي ذات مرة قالت لي: الجميع يُمدّد الكهرباء، ألم ترَ أن المفوّض نفسه قد مدَّد الكهرباء إلى بيته، فما رأيك؟ وافقت طبعاً.

مددنا الكهرباء، وغمر نورها المكان، ولكن يا إلهي، أيّ شيء هذا!؟ فالبؤس والفاقة يضربان أطنابهما في كل مكان. وأنّى نظرت لا ترى إلا ما يُثير القرف والاشمئزاز. فحتى الماضي القريب كنت تذهب إلى العمل صباحاً، ولا تعود إلا مع حلول الظلام. وبعد تناول الشاي تأوي إلى فراشك من دون أن تميز شيئاً في ضوء القنديل الخافت أو الشمعة الهزيل. أما الآن، وبعد أن غمر النور المكان، فترى الحذاء المهترئ، وترى ورق الجدران الملوث والممزق، وترى البقّ ينساب أفواجاً، هرباً من الضوء الباهر، وترى خشب النوافذ المسوس، وترى أعقاب السجائر المبعثرة في كل مكان، يا إلهي، ما هذا البؤس الذي يحيط بنا؟!

أية مصيبة هذه، فحيثما نظرت ترى ما يزعج البصر، وما لا يسر الخاطر: فالكنبة التي كانت حتى الماضي القريب كنبة لا بأس بها، بل جيدة، وغالباً ما كنتُ أجلس عليها في الأماسيّ، وآخذ قسطاً من الراحة. أما الآن فلم أكد أشعل الضوء حتى وقفتُ قبالتها فاغر الفم، جاحظ العينين. أية كنبة هذه؟ إنها ممزقة وملوثة ببراز القطط، مبقورة البطن، منهوشة الصدر، تتدلى من أحشائها حزم القش التي تغصّ بأنواع الهوام. من المستحيل أن تكون هذه كنبة. إن التفكير المستقيم والروح الحيَّة تأنف من ذلك وتثور عليه. يا إلهي، ما هذه الحياة البائسة التي أحيا!؟

ولم تكن حياة بليزافيتا بيتروفيتا -صاحبة الشقة- بأفضل من حياتي، فتراها مثقلة بالهموم والأحزان، وهي لا تكفُّ عن العمل في المطبخ الصغير، وأسألها مستفسراً: ما الذي يشغل بالك يا سيدتي؟ فتنفض كفّيها من ماء جلي الأوان، ثمَّ تُشوبر بهما وتقول بأسى: لم أكن أعرف-أيها الشاب- أنني أعيش في مثل هذا الفقر المُدقع.

عندما ألقيتُ نظرة على مطبخ بليزافيتا بيتروفيتا، لم أر إلا البؤس وسقط المتاع من مواعين علاها السخام والصدأ، وكراكيب مطبخية لا حاجة لها في أغلب الأحيان. كل هذا يغمره النور الباهر، فيبرزه ظاهراً للعيان يعرض نفسه دون خجل أو حياء. منذ ذلك الحين أمسيت أعود إلى البيت متذمراً مهموماً. ولا أكاد أصل البيت وأشعل الضوء، حتى أرى بؤسي حاضراً، فآوي إلى فراشي وأنا نهب للأفكار والخواطر السوداء.

بعد أن فكَّرتُ في الأمر ملياً، وبعد أن قبضت راتبي، اشتريتُ كمية من الكلس، وانكببتُ على العمل بهمة ونشاط. نزعتُ الورق الممزق القذر عن الجدران ونظَّفتها من جحافل البق وبيوت العناكب. وكلَّستُ السقف والجدران، فأصبح كل شيء أبيضَ زاهياً، نظيفاً، يشرح الصدر، ويثير البهجة في النفس. للأسف، لم تدم بهجتي طويلاً، فقد قررت بليزافيتا بيتروفيتا فجأة التخلي عن الكهرباء. ما السبب؟ قالتْ: إن الحياة تبدو في غاية البؤس في الضوء، فما الداعي لتسليط الضوء على حياة مزرية كهذه؟

كم توسلتُ إليها، وحاولتُ اقناعها، وسقتُ لها كثيراً من الحجج والأمثلة حول فوائد الكهرباء، لكن كل جهودي ذهبتْ أدراج الرياح. أخيراً نفد صبرها من إلحاحي، وقالتْ: بوسعك أن تُغادر هذه الشقة وتنتقل إلى أخرى مكهربة أما أنا فسأعود إلى ضوء القنديل العزيز.

لكن هل الانتقال إلى شقة أخرى بالأمر السهل يا رفاق، خصوصاً أنني أنفقت نصف راتبي على إصلاح هذه الشقة. وهكذا خضعت للأمر الواقع وبقيتُ. إن الضوء شيء جيد يا رفاق، لكن للضوء مساوئه أيضاً.

العدد 1104 - 24/4/2024