قد أتاك يعتذر

حسين خليفة:

في مطلع قصيدته الرائعة المغناة بصوت الأيقونة فيروز، يقول الشاعر بشارة الخوري (الأخطل الصغير):

قدْ أتاك يعتذرُ

لا تسَلْهُ ما الخبرُ

كلما أطلتَ له في الحديث يختصرُ

في عيونه خبرُ

ليس يكذبُ النظرُ

هذا المطلع يختصر الكثير من الحالة التي يكون فيها المعتذِر والمعتذَر منه في حالات إنسانية متنوعة ومختلفة، فالشاعر يقول لا تسأله ما الموضوع، إذ كلما سألتَه زاد اختصاراً في الحديث، يكفي أن تنظر في عينيه لتقرأ كلمات الاعتذار.

هنا تحتاج العلاقة إلى طرفين متفاهمين، المعتذِر الذي يختصر في الكلام ويكتفي بتعبيرات الوجه والعيون، والمعتذَر منه الذي ينبغي عليه أن لا يسرف في إحراج المعتذِر والضغط عليه و(التنكيل) به حتى يندم على إقدامه على فعل الاعتذار.

ثقافة الاعتذار، وهي ظاهرة شبه مفقودة في مجتمعاتنا الشرقية، هي ضرورة لخلق حالة توازن نفسي ومجتمعي، لما لها من نشر المحبة والمصارحة والقدرة على الارتقاء للاعتراف بالخطأ، وفي الآن نفسه قدرة الآخر على المسامحة ونسيان الإساءة أو الخطأ الذي وقع فيه صديقه أو أخوه أو أي من محيطه.

أدّعي أن أهمّ دافع للقدرة على الاعتذار وامتلاك جرأة الاعتراف بالخطأ علانية وأمام الشخص المعني به هو الحب، نعم، الحب الذي يختصر كل ما سبق، بجانبي العلاقة.

فمن ينتظر الآخر ليتصيّده، ويعدّ عليه أخطاءه، ويخطط للإيقاع به والانتقام منه، لا يمكن أن يرتقي إلى هذا المستوى الحضاري.

الإنسان السويّ الذي هو نتاج تربية عائلية ومجتمعية قائمة على الثقة والصدق وحسن النية في التعامل مع الآخرين، هو وحده القادر على تمثُّل هذه القيم الحضارية الراقية، والتي تشكل سبباً ونتيجة في آن، للوصول إلى مجتمع سليم معافى يمكن أن يبني بلداً متطوراً قوياً مسالماً.

لنقرأ المقطع الأخير من القصيدة ـ الأغنية:

عدْ

فعنكَ يؤنسني

في سمائه القمرُ

قدْ وفى بموعده

حين خانتِ البشرُ

وأتاك يعتذرُ

لا تسلُه

ما الخبرُ!

هي قصيدة حب، لكنها يمكن أن تنسحب إلى هذا الحد أو ذاك على العلاقات الإنسانية بمجملها، أن يعود المخطئ بحقك إليك، ويفي بموعده رغم الخيانات التي يرتكبها البشر.

نعود إلى الفكرة الأولى، التسامح (لا تسله ما الخبر)، يكفي أنه أتاك يعتذر، يكفي أنه تجاوز أنانيته وحس كل إنسان بأنه يمتلك الحقيقة كاملة، أنها تلبية لتلك الحكمة الأجمل التي تقول: الحق موزع بين الناس لذلك يظن كل إنسان أن الحق معه.

فنبش الماضي، وإحياء الثارات القديمة بمنطق حرب البسوس لا يفيد إلاّ في إضرام نار العداوات والقتل، وتحويل المجتمع إلى فصائل متقاتلة تدّعي كل منها امتلاك الحقيقة وتقمع المختلفين منها، وهذه العقلية لا توصل إلى أي حل يعيد الألفة والمودة بين الناس، بل تزيد الفرقة والانقسام، وتوصل المجتمع والبلاد إلى دمار شامل لن تفيد معها محاولات الترميم القادمة من خارج المجتمع، بل إن العامل الوحيد المعزز للوحدة والتآلف المجتمعي هو نشر ثقافة التسامح والمحبة وحسن النوايا تجاه الآخر المختلف.

للأسف ما زال السائد عندنا حالة معكوسة تماماً، حالة سلبية ترفض الاختلاف والتعدد، عقل أحادي مستقر على يقينيات قاتلة تنتمي إلى الماضي القريب أو البعيد يخلق بديهياته غير القابلة للنقاش ويدفع إلى حالة مستنقعية قاتلة للحاضر والمستقبل.

إن ما يحزّ في النفس حقاً هو أننا نمعن في الذهاب إلى خراب عميم يؤسّس لانهيار شامل ونهائي، يهيئ لانقراض شعوب وبلاد كانت إلى زمن قريب تمور بالحياة والحب والخضرة، واحتمالات التقدم والتطور باتجاه العالم المتطور الذي انتقل إلى مرحلة الفرجة على مآسينا وتركنا نهباً للقوى القروسطية المتخلفة كحالة متحفية تنتمي للعصور المظلمة.

الأفق ليس مغلقاً تماماً، وما زال بإمكاننا أن نبدأ بترميم الخراب في الأرواح والمدن باتجاه ثقافة تحترم الآخر وتقبل التراجع عن الخطأ والاعتذار عنه.

كنا في حديث الاعتذار، فأصبحنا في حديث البلد والمجتمع وما هو ضروري للبداية من جديد.

إنها الحياة، شاسعة ومتشعبة وجميلة ومليئة بالاحتمالات.

العدد 1104 - 24/4/2024