حديث عابر

د. أحمد ديركي:

بعد عمل يوم مرهق، والإرهاق مسألة طبيعية لارتفاع مستويات الاستغلال للطبقة العاملة من دون رقيب ولا حسيب، لا بد من العودة إلى المنزل. العودة هنا إلزامية بكونها متعددة الأطراف، تبدأ بالجوع وتنتهي بالإرهاق والحاجة إلى أخذ قسط من الراحة الجسدية إضافة إلى الذهنية. مع لحظ أنه لا يمكن الذهاب بعد العمل إلى أي مكان (ترفيهي)، بسبب تدني الأجر الشهري، كما لا يكفي لشراء وجبة سريعة لتسكيت الجوع.

من الطبيعي عند العودة إلى المنزل تبادل أطراف الحديث مع المقيمين فيه، سواء كان المقيمون الزوجة والأولاد، إن وجدوا، أو مع الوالدين والإخوة والأخوات أو من تبقى منهم ولم يجبر على مغادرة البلاد بسبب الظروف المعيشية قبل الأمنية.

عادة ما تكون الاحاديث المتبادلة عامة وسطحية ويمكن الانتقال من موضوع إلى آخر مختلف عن الأول بشكل جذري وأكثر ما يحدث هذا خلال تحضير الطعام.

عند وضع الطعام والبدء بالتهامه، لا تناوله بسبب الجوع، يكون الحديث مشابهاً لما هو قبل وضع الطعام وإن إختلفت مواضيعه، وفي بعض الأحيان يعم السكون خلال الطعام. سكون لا يكسره سوى صوت المعالق وهي تطرق الصحون في بعض الأحيان.

ينتهي فعل التهام الطعام ويبدأ جمع الطعام ووضع ما تبقى منه في مكانه، وعادة ما يكون في اختراع اسمه: برّاد، وتُجلى الصحون وتعاد إلى مكانها الطبيعي. مكان لا حديث حوله بل هناك حديث حول هذا الاختراع المسمى (براد).

تسمع من المطبخ صوتاً يقول لك: ضع ما تبقى من الطعام على الغاز ولا تضعه في البراد! وهنا يبدأ جزء من القصة اليومية. الكهرباء مقطوعة منذ ما يزيد عن 3 ساعات وبعد قليل سوف ننعم بزيارة الكهرباء لنا، ولكنها نعمة لن تدوم طويلاً فهي كمن يلعب لعبة (الغميضة)، أي ننعم بنعم زيارتها لنا لمدة لا تتجاوز 30 دقيقة، رغم أنه من المفروض أن تزورنا 3 ساعات. فهي خلال الساعات الـثلاث تذهب وتختفي ثم تعاود الظهور ثم تختفي وهكذا دواليك. والغريب أنها في فترة انقطاعها الرسمية لا تفكر في زيارتنا!

(لعبة الكهرباء) لا تتوقف مع الاختراع المسمى (براد) فهذا الاختراع معتاد على (الرفاهية) وسر رفاهيته يكمن بدوام وجود زائر اسمه الكهرباء وإلا تعطل عن العمل أو أحترق محركه من الشوق له أو لعدم قبوله اللعب مع الكهرباء. وبهذا ما من حاجة لهذا الاختراع المسمى (براد) المحب للرفاهية! فالصوت الآتي من المطبخ والآمر بوضع ما تبقى من الطعام على الغاز يعلل هذا الأمر بقصة (البراد) و(لعبة الكهرباء).

مع (البراد) هناك ما يعرف بـ(الثلاجة)، وهي جزء منه وتتبع (البراد) خطوة بخطوة، ومهمتها تجميد ما يوضع بها، ولكنها لا تستطيع تجميد (الكهرباء)! بكوننا مجتمعات ما زلنا نحمل الكثير من عادات حياة الريف وحياة ما قبل المدينة، فننقل هذه العادات معنا وإن عشنا في المدينة لسنوات وسنوات. ومن هذه العادات (المونة)، وعادة ما تخزن في (الثلاجة). ولكن بسبب لعبة الكهرباء مع البراد والثلاجة رُميت كل (المونة) في سلة المهملات.

بعد قصة (البراد) و(الثلاجة) ورمي (المونة) في سلة المهملات يأتي الفصل الثاني من القصة، وعادة ما يكون من الصعب الانتقال من موضوع إلى آخر خلال الفصل الثاني. والحديث هنا لقد خدمت القطاع العام ما يزيد عن 40 سنة وها هو راتبي التقاعدي لا يكفي لشراء حذاء جديد، فهل يعقل هذا؟ أين العدالة في هذا؟ كيف لهذا أن يكون وهناك أشخاص يملكون مليارات الليرات، ولن نقول دولارات لأن للجدران آذاناً. ماذا يريد هولاء من كل هذه الأموال الضخمة، فغداً سوف يموتون ولن تدفن أموالهم معهم؟ لماذا لا تُفرض عليهم ضرائب مرتفعة لترفد خزينة الدولة بما يكفي لرفع الأجور؟ وتبقى كل هذه الأسئلة بلا إجابة وإن كانت إجاباتها واضحة وجلية!

ويختم الحديث على الشكل التالي: من الجيد أن أخاك خاض غمار البحار وخاطر بحياته هرباً من هنا ومن هذا الجحيم الذي نعيشه. وها هو ذا يدعمنا ببعض الأموال شهرياً كي نستطيع العيش بكرامتنا وإلا كنا شحدنا على باب الجامع أو الكنيسة، لأن لا معاشك ولا معاشي التقاعدي يكفيان أجرة المنزل. فما حال من ليس لهم أحد في الخارج ليدعمهم؟ وهنا ينتهي الحديث لتكون هذه النهاية بداية جحيم آخر نعيشه.

العدد 1104 - 24/4/2024