أختُ الشَّمسِ اللَّاعبةُ بالنَّار

إيناس ونوس:

كأنَّما حملتْ على كاهلها تعويذةَ الحياةِ والموت، بيدٍ تزرعُ الحبَّ والعطاء وبأخرى تدفنُ أبناءها، تنفضُ الرَّمادَ عن كتفيها كلَّ صباحٍ لتمضي في مشوارها واثقةَ الخطا، مرتعشةَ القلب، باسمةَ الثَّغر مع كلِّ فكرةٍ تدور في رأسها أو عملٍ ستقوم به على مدار السَّاعات، وكأنَّها الشَّمسُ تعلن بدايةً جديدة.. أو كأنَّها اللَّيل يسدل السِّتار ويخفي في رحمه كلَّ الغصَّات والهموم واللَّوعات.

تحفر في الصَّخرِ لتفسح مجالاً لنبتةٍ جديدةٍ بالنُّموِّ والتَّبرعم، تمسحُ عن خدَّيها دموع الألمِ والقهرِ والوحدة، وكأنَّ وقوفها وحيدةً في مواجهة هذه الحياة القاسية المرهقة قدرٌ لا مفرَّ منه، قدرٌ يزيد من صلابتها وجبروتها وعنادها في محاولات خلقٍ جديدٍ يزرع الفرح في قلبها الذي ينوء بمن فقدهم، ومن ودَّعهم، ومن دفنهم بين حناياه كي لا تندثرَ ملامحهم.

تقرأ تراتيلَ الحياةِ كلَّ صباحٍ، وتتمتم تعويذات القهر والوجع كلَّ ليلة، وهي تحضن من حولها كحمامةٍ وادعةٍ خوفاً عليهم من الشُّرور التي تواجهها هي، ترمي بنفسها في مهبِّ رياح الحياة لتدافع عن وجودهم، فإن لم تكسب ما يمكِّنها من إطعامهم وتدفئتهم وإرواء عطشهم، قامت بنزع بعضٍ منها لتوزِّعه عليهم دون أن تسمحَ لهم برؤية ومعرفة فعلتها، وبابتسامتها اللَّطيفة تمدُّهم بالأمل بأنَّ الغدَ أفضل وأكثرَ إشراقاً وأقلَّ تعباً.

إنَّها طائر الفينيق، يستمدُّ عزيمته على النُّهوض في كلِّ مرَّةٍ من تلك الابتسامات الصَّغيرة المتناثرة حوله.

هي زارعةُ الحياة الأولى والأخيرة، تحصد تارةً لتزرع أخرى، ليجني غيرها ثمار كلِّ ذاك التَّعب.

أمُّ الوجود بكلِّ تجليَّاته.

وأختُ الشَّمس.

اللَّاعبةُ بالنَّار لتبرِّد لظاها.

هي.. يدُ الخير أينما لاحت.

وأنشودةُ الأملِ في زمنٍ يضيق به الأمل.

الأمُّ السُّورية المثقلة بالجراح والخيبات والنَّكبات، من أقرب المقرَّبين إلى أبعد النَّاس.. المرميّة وحيدةً في مهبِّ الألم والدُّموع والحسرة، من تأبى أن تموت روحها برغم كلِّ الأسباب المؤدِّية إلى ذلك، فقط ليكمل غيرها الطَّريق، ولتعلن للكون وللخالق وللحكومات وللعالم أجمع أنَّها الأجدر بالحياة التي تستحقُّها.

العدد 1104 - 24/4/2024