الطريق الصعب للحاق بركب التطور العالمي

يونس صالح:

تقول الأسطورة في وصف الطوفان العارم الذي اجتاح الكرة الأرضية إنه عندما عمّ الفساد في الأرض، أمر الله نوحاً بصنع فلك للحفاظ على الصالحين، وغير ذلك فهو هالك.. وهكذا كان.. فدورة الحياة الجديدة انطلقت بمن كان على متن سفينة نوح، وبزغ فجر جديد.

واليوم يشهد العالم طوفاناً آخر من صنع الإنسان، فما نراه من قلب للأمور رأساً على عقب في كثير من المسلمات والمفاهيم في جميع مجالات الحياة لدليل على بدء هذا الطوفان.

إن الزخم الهائل كمّاً ونوعاً في الإنتاج الفكري والتطور الكبير والمتسارع في ساحة العلوم الطبيعية والإنسانية، وفي كثير من فروع المعرفة، والتي هدفها الأساسي ليس التغلب على مشكلات اليوم فقط، بل استقراء مستقبل الإنسان واستشراف آفاقه، لا يدع مجالاً للشك أن المعلوماتية هي سفينة النجاة التي علينا أن نعمل ونساهم في صنعها، وأن نكون من بناتها قبل فوات الأوان.

رغم أن التعاون بين البلدان العربية قد انهار في الآونة الأخيرة، وانحسر التعاون والتنسيق إلى أبعد الحدود، فإن بعض العلماء والمفكرين العرب مازالوا جادين في أبحاثهم ودراساتهم ومشروعاتهم على الأصعدة المختلفة، محاولين اللحاق بركب التطور والتقدم الإنساني الذي يعيش حالة من التسارع المطرد يوماً بعد يوم. ومن هذه الدراسات ما أنجز نظرياً ومنها ما ينتظر، ولكن لا تجد هذه الدراسات طريقها إلى التطبيق العملي، ومن هنا فالفجوة العلمية والتقنية، وبالتالي الاقتصادية التي تفصل بين البلدان العربية والعالم الصناعي المتقدم.

ومع انتقال المجتمعات المتقدمة إلى عصر المعلوماتية كمورد اقتصادي لا ينضب، تزداد هذه الفجوة اتساعاً باستمرار، ولهذا نرى أنفسنا اليوم أكثر من أي يوم مضى أمام تحدٍّ علينا مواجهته لا تجاهله، فإما أن نكون على ظهر السفينة وإما الغرق.

تعتبر البلدان العربية برمتها من الدول النامية، هذا الاصطلاح الذي أطلق على الدول التي لم تحصل على استقلالها السياسي إلا بعد الحرب العالمية الثانية، والتي بعد حصولها على الاستقلال السياسي استمرت في النضال من أجل التغلب على مخلفات الاستعمار والسيطرة الغربية اقتصادياً وثقافياً، وأنهكتها الصراعات السياسية، مما غيّب الاهتمام بالتقنية والعلم كمسألة أساسية، وضرورة لا غنى عنها في التطور والتنمية الاقتصادية، وواقع الحال يشير إلى أن هذا البعد مازال غائباً أو ضعيفاً في كثير من المجالات العلمية والتقنية.

فعملية استقدام التقنية واستيرادها تتم بشكل عشوائي غير منظم ولا مدروس، وكذلك لا تكون هناك تهيئة لاستقبال هذه التقنية واستيعابها حسب حاجات المجتمع، وهي عادة تكون تقنية استهلاكية، وتحافظ هذه التقنية على علاقتها مع البيئة التي أنشأتها، وتبقى جسماً غريباً مما يضعف ارتباط المنتج عندنا بها.. فكما هو معروف أن التقنية بخلاف العلم الذي لا يعرف حدوداً، لها بيئة تعيش وتتطور فيها حسب حاجات هذه البيئة ومتطلباتها. وبناء على ذلك فإن لكل بيئة تقنياتها المحددة والمترافقة مع المستوى الذي وصلت إليه من تطور. فالتقنية إذاً قبل أن تكون مجموعة من الآلات والمعدات وخطوط الإنتاج وغيرها، هي تطبيقات علمية واستخدامات للأبحاث والدراسات في تطوير المستوى المعيشي للفرد في المجتمع، مما يعطي صبغة حضارية تترك أثرها في جميع المجالات والأبعاد المكونة للفضاء الاجتماعي.

إن التقنية تشمل على نوعين من المنتجات، المنتجات العينية من آلات وغيرها، والمنتجات البشرية من خبراء وفنيين وغيرهم.. ولكن التقنية بالمفهوم الدارج في مجتمعنا تعني توقيع الاتفاقات والصفقات المكلفة ابتداء من الفنادق السياحية الضخمة بطاقمها الكامل، وغيرها من المنشآت الخدماتية والاستهلاكية، مع الاكتفاء من الجانب المحلي بدور المشرف العام الخارجي على هذه المشاريع، وما يرافقها من تقنية مستوردة. وبالمقابل نجد أن البلدان المصدرة للتقنية والصانعة لها تعتمد بدرجة أساسية على تراكم الخبرات ونتاج الباحثين، وقد بلغ دور هؤلاء نتيجة التطور التقني في زيادة الإنتاج ما يعادل 70٪، بينما الزيادة الناجمة عن استثمارات رؤوس الأموال المختلفة لم تتعد 30٪ من إجمالي الإنتاج فيها.

ومن هنا فإن حصر المشكلات التي يعيشها مجتمعنا، وتشكل عائقاً في طريق تقدمه وتطوره تقنياً وصناعياً، وتحديد الدور المطلوب، والتوجهات الكفيلة بالتغلب على هذه العقبات، يمكن تلخيص معظمها بالتالي:

أولاً- التشوه الخلقي للنظم الاقتصادية والاجتماعية والتطور اللامتوازي للقطاعات المختلفة في المجتمع.

ثانياً- عزلة الريف عن التطور المدني الحقيقي، وتفشي الأمية فيه، وضعف مشاركة المرأة في التنمية.

ثالثاً- الغياب أو الضعف الشديد للأجهزة ومراكز البحث العلمي، وتجاهل دور الإعلام والنشر العلمي والتقني.

رابعاً- ضعف التنسيق والتعاون بين المؤسسات التعليمية والتدريبية والمؤسسات التصنيعية.

خامساً – انعدام التخطيط المركزي الحقيقي لنقل التقنية وتطويرها وتوطينها.

سادساً- عشوائية خطط الترجمة العلمية والتعريب التقني والتحديث اللغوي للمصطلح العلمي.

سابعاً- عدم وجود برنامج واضح المعالم لتتبع الإنجازات العلمية والتقنية في العالم ومواكبتها.

ثامناً- فقر القاعدة الصناعية الثقيلة، والاعتماد الكلي على الاستيراد.

فهل نحن قادرون على التخلص من هذه العقبات، وإنجاز هذه المهام للانطلاق في الاتجاه الصحيح الذي يضعنا على سكة اللحاق بالتطور العالمي؟ إنه التحديث الحقيقي الذي تواجهه بلداننا.

 

العدد 1104 - 24/4/2024