الغرب يستعيد (ماركس) مجدداً .. لماذا؟  .. الألماني (توماس شتاينفلد) يبحث عما تبقى من راهنية (المنظّر) في المئوية الثانية لولادته (2_ 2)

رائد حامد:

نشرت (النور) الجزء الأول من هذه الدراسة في العدد الماضي 966، وجاء في بدايتها:

 هذا الكتاب الجديد الذي نحن بصدد الحديث عنه هنا هو: (سيد الأشباح_ كارل ماركس قراءة معاصرة) للألماني توماس شتاينفلد، صدر بالألمانية في عام 2018، وترجمه إلى العربية الناقد والأديب السوري المعروف د. نبيل الحفار، في عام 2020(1).

عشرات الكتب صدرت في العقدين الماضيين تتحدث عن ماركس، فماذا يا ترى لدى (شتاينفلد) الألماني كي يضيفه بعد هذا السيل المستجد من الكتابات عن ماركس؟ وهل ثمة جديد في كتابه يمكن التوقف عنده؟

في الحقيقة لا يمكن الإجابة عن هذا السؤال من دون عرض بعض النماذج من هذه الكتب، ومعرفة الكيفية التي تناول بها المؤلف ماركس وأفكاره في هذه الالتفاتة المستجدة.

 

العودة إلى ماركس.. كتب جديدة

قبل الفورة الأخيرة التي استعادت ذكرى ماركس، كان المفكر الأسترالي الذي يعود إلى أصول يهودية نمساوية (بيتر سنجر)، أستاذ الأخلاق الحيوية في جامعة برنستون، قد كتب في عام 1980 كتاباً عن ماركس طبعته جامعة أكسفورد (2) وجّه فيه نقداً شديداً لماركس، واتهمه بالإخفاق في جميع توقعاته وتنبؤاته فيما يتعلق بمستقبل الرأسمالية ومستقبل الطبقة العاملة، وما كتبه (سنجر) شكّل سمةً عامة للكثير من الكتابات التي تناولت حياة ماركس وفكره في الغرب، في المرحلة التي سبقت سقوط المعسكر الاشتراكي، لكن بعد هذا الحدث الزلزال (تحررت الكتابة عن ماركس كشخصية تاريخية من دور أداة الحكم وقيود الماركسية اللينينية) على حد تعبير إريك هوبسباوم ، وبالتالي تغيرت اتجاهات الكتابة كلّها عن ماركس، ففي عام 1999 كتب الصحفي والكاتب والمذيع البريطاني (فرانسيس جيمس بيرد وين) قصة حياة كارل ماركس (3) ومما قاله (وين): (إن ماركس المفكر والإنسان وليس الإيديولوجي هو الذي يعود اليوم، ويزعم (وين) أن ماركس لم يكن إيديولوجياً إلا عرَضاً، ويقول: (ماركسية ماركس لم تكن إيديولوجيا بقدر ما كانت نقداً ديالكتيكياً متجدداً على الدوام).

ويوضح (وين) أن غايته من الكتاب هي: إعادة اكتشاف ماركس الإنسان، وإضاءة الجانب الإنساني في شخصية ماركس. وفي عام 2006عاد (وين) مرة أخرى فكتب عن ماركس (سيرة ذاتية لكتاب رأس المال).

في عام 2005 كتب المنظّر الاقتصادي الفرنسي (جاك أتالي) المستشار الثقافي للرئيس الفرنسي الأسبق فرنسوا ميتران، وأول رئيس للبنك الدولي، كتاباً لافتاً عن ماركس (4) فيه الكثير من الاحتفاء والعناية والنقد، على الرغم من أنه لم يكن ماركسياً ولا شيوعياً، ولا حتى متعاطفاً مع الماركسية. بذل (أتالي) فيه جهداً كبيراً لإضفاء ظلال من الليبرالية في نسختها الشابة على ماركس. كما دعا إلى إعادة قراءة الماركسية اليوم بعيداً عما أسماه العصبية الإيديولوجية، وقال: إنه ثمة إمكانات نظرية واسعة تمتعت بها الماركسية لا تزال قادرة على تقديم تفسير لآليات المجتمع الرأسمالي وتطوراته وآفاقه، وخلص إلى أن الماركسية ما زالت حتى اليوم منهجاً نظرياً أساسياً لا يمكن إنكاره. واللافت أيضاً أن (أتالي) وهو اليهودي الفرنسي، يتحدث في كتابه بفخر عن يهودية ماركس، تماماً كما فعل سلفه (بيتر سنجر) اليهودي الأسترالي النمساوي.

في عام 2011 صدر في العالم الغربي كتابان على طرفي نقيض في طريقة التناول وطريقة الاحتفاء بكارل ماركس، ففي الولايات المتحدة كتبت الصحفية الأمريكية (ماري غابرييل) كتاباً عن ماركس بعنوان (حب ورأس مال: كارل وجيني ماركس وولادة ثورة) يتضمن سيرة مبتذلة لحياة ماركس، لاحقت فيها المؤلفة أدق تفاصيل حياة ماركس في ألمانيا، ثم في منفاه الطويل في باريس ولندن، وحتى مصير بناته بعد وفاته، كما لاحقت علاقاته النسائية وهفواته، وروت قصصاً عن علاقاته في لندن، ومن بينها أن له ابناً غير شرعي.

وفي تلك السنة نفسها (2011) في لندن، كتب المؤرخ البريطاني الماركسي والأستاذ في جامعة لندن (إريك هوبسباوم) (1917 – 2017) كتاباً هاماً عن ماركس بعنوان (كيفية تغيير العالم، حكايات عن ماركس والماركسية) (6) أكد فيه أن ماركس بوصفه فيلسوفاً ومحللاً اقتصادياً ومؤسساً لعلم الاجتماع الحديث، سيبقى مرشداً لفهم التاريخ الإنساني، ودعا لإعادة قراءة ماركس قائلاً: (آن الأوان من جديد للنظر إلى ماركس نظرة جديدة غايتها إيجاد حلول لمسائل القرن الحادي والعشرين).

وفي عام 2015 كتب المؤرخ السويدي (ستيفن إريك ليدمان) كتاباً عن ماركس تحت عنوان: (عالم نكسبه، حياة وأعمال كارل ماركس)، رفض فيه اختزال فكر ماركس في الماركسية فقط، وأكد أن ما قدمه ماركس فكرياً أكبر وأهمّ، حسب رأيه، من الماركسية بوصفها إيديولوجيا. ويتميز (ليدمان) من بين الذين كتبوا عن ماركس في الغرب أنه كان الأكثر تعميقاً للعلاقة بين حياة ماركس وعمله الفكري، وقد أعيد طبع هذا الكتاب في عام 2018 في الذكرى المئوية الثانية لولادة ماركس.

في عام 2016 كتب المؤرخ البريطاني (غاريت ستيدمان جونز) كتاباً عن ماركس بعنوان: (كارل ماركس، العظمة والوهم)، وجونز أكاديمي يميل إلى اليسار، لكنه ليس شيوعياً، قدم في كتابه نقداً لشخص ماركس وفكره، ومثّل الكتاب سيرة فكرية ركزت على السياق الفلسفي والسياسي في حياة ماركس، ومما قاله في ذلك: (إن المثقفين الألمان الكبار في منتصف القرن التاسع عشر كانوا على وجه العموم ذوي طبع نكد، وفي مقدمتهم شوبنهاور ونيتشه وماركس، وأن ماركس قد تميّز عنهم بأنه كان يملك طبعاً سيئاً وحاداً في التعامل مع الآخرين والأخص رفاق دربه)، وعن فكر ماركس قال (جونز): (إن من مثالب ماركس أنه لم يولِ اهتمامه أبداً لسؤال الدولة).

وفي عام 2017 كتب الأمريكي (وليم كلير روبرتس) كتاباً عن ماركس تحت عنوان: (جحيم ماركس، النظرية السياسية لرأس المال) قال فيه: (إن تراجع دور الدولة أمام تغول الرأسمالية وازدياد هيمنتها على مفاصل الدولة الحديثة، وكذلك أزمات الرأسمالية الكبرى، تذكّرنا بوجوب قراءة ماركس من جديد). ويؤكد روبرتس أن (الرأسماليين يشعرون الآن بضرورة مرا جعة أفكار ماركس الذي يعدّ عدوهم اللدود). ويقول (إن ثمة مسألة فكرية ثانية تدفع إلى إعادة تذكر ماركس وتؤكد راهنيته، وهي كونه المدافع الأبرز عن المساواة والعدالة)، ويضيف: (لذلك كله يحضر ماركس في أذهان الكثيرين في مجتمعات العالم اليوم وبخاصة المثقفين منهم)(7).

وفي عام 2018 ذكرى مئوية ميلاد ماركس، أصدر المفكر الفرنسي (غريغوري كلايس) أستاذ تاريخ الفكر السياسي في كلية رويال هولواي بجامعة لندن كتاباً بعنوان (ماركس والماركسية) قال فيه: (إن ماركس قائد ملهم منح البشرية الأمل بأن الحياة الكادحة المضنية ليست قدراً محتوماً، وأن الرأسمالية مرحلة محدودة من التطور، وأن نظاماً أكثر إنسانية قد يحل محلها، وأن ماركس بالرغم من بعض العيوب في نظريته سيبقى محور النقاشات الحالية لتطوير مستقبل البشرية). ويقول جونز أيضاً: (إن ماركس كان ديمقراطياً، وإن البلاشفة ولينين هم الذين قدموا تفسيراً ثورياً لأفكار ماركس، وهم الذين أصرّوا على أن جماعة ثورية يمكنها الوصول إلى السلطة والاحتفاظ بها، وماركس لم يؤيد هذه الاستراتيجية، وظل ديمقراطياً طوال حياته).

هذه هي الصورة التي حاولت الكتابات الغربية الأخيرة رسمها لماركس: ماركس الديمقراطي، ماركس المفكر وليس الإيديولوجي، ماركس اليهودي، وحتى ماركس الليبرالي، وماركس الإنسان ذي العيوب والأخطاء، إلى جانب الفيلسوف البارز، والاقتصادي القادر على التنبؤ. صورة رأى فيها الغرب نفسه وصدى أفكاره مع قليل من المراجعة النقدية.

 

(شتاينفلد) الألماني ومنهجه في الكتابة عن ماركس

أن يكتب ألماني عن ماركس، ويعود إلى المصادر الألمانية بالدرجة الأولى شيء هام ولافت، لكن ماذا يمكن أن نتوقع من (شتاينفلد) الناقد الأدبي أن يقدم من جديد عن ماركس في دراسته.

هو بالتأكيد ليس أول ألماني يكتب عن ماركس، فقد سبقه ولهيلم ليبنكخت في عام 1896، وفرانز مهرنغ في عام 1919، ورولف هوسفيلد في عام 2012.

ومن المعروف أيضاً أن ماركس نفسه كان قد قضى الشطر الأكبر من حياته خارج ألمانيا مشرّداً منفياً في باريس وبروكسل ولندن، وخاصة في لندن، ولذلك اهتمّ به الإنكليز اهتماماً خاصاً كأنه يخصهم، فكتبوا كثيراً عنه، وقد توفرت المصادر الكثيرة عن حياته في تلك المرحلة، فقد أقام في لندن إقامة طويلة متصلة امتدت أكثر من عشرين عاماً.

بالعودة إلى كتاب شتاينفلد، نتساءل: كيف يمكن لناقد أدبي مثل شتاينفلد أن يتناول أعمال مفكر واقتصادي وفيلسوف بمستوى كارل ماركس؟

توماس شتاينفلد باحث أدبي ومحرر صحفي يعمل في جريدة (زود دوتشيه تسايتونغ) الألمانية، لذلك كان منهج شتاينفلد في قراءة أفكار ماركس مرتبطاً ارتباطاً وثيقاً باختصاصه في النقد الأدبي، وقد عمل لأجل كتابه هذا على كم هائل من التراث الأدبي في القرن التاسع عشر والذي سبقه في أوربا، محاولاً قراءة أفكار كارل ماركس الاقتصادية وتحليلها في إطار الثقافة الأدبية، بوصفها شاهداً على ذلك القرن والقرون السابقة له، لأجل ذلك قام شتاينفلد بتتبّع الروايات والأعمال الأدبية عبر ثلاثة قرون على الأقل وصولاً إلى القرن التاسع عشر، ووجد فيها سجلاً وثائقياً لتطور الأفكار، وانعكاساً للثقافة المجتمعية السائدة آنذاك، ومن بينها تلك الأفكار الاقتصادية التي عني بها ماركس في مؤلفاته.

لقد عمل شتاينفلد بدأب غير مسبوق على تتبع الأفكار الاقتصادية الأساسية في كتابات ماركس في رأس المال وغيره من الكتب مثل: المال، رأس المال، المقايضة، الفائض، اللامساواة، الطبقات، العمل، الملكية، أدوات العمل، المؤجر، المستأجر، السمسار، المرابي، العامل ….الخ. ولاحق مدلولات هذه الأفكار وتطورها من خلال صورتها في الأدب وانعكاسها في الثقافة الشعبية في ذلك الزمن من القرن التاسع عشر والقرون التي سبقته ذلك، كما ظهرت في أعمال الأدباء: الروائي والأديب الفرنسي ألكسندر دوما (1802 – 1870)، الروائي الفرنسي بلزاك (1799 – 1850)، الروائي الفرنسي غي مو باسان (1850 – 1893)، المسرحي النرويجي الكبير هنريك إبسون (1828 – 1906 ) الروائي الفرنسي إميل زولا (1840 – 1902) الأديب التشيكي الذي يكتب بالألمانية فرانز كافكا (1883 – 1924)، والكاتب والمخرج النمساوي الأمريكي فريتس لانغ (1890 – 1976) وآخرين غيرهم.

وكان هذا أهم ما ميّز أسلوب شتاينفلد ومنهجه في البحث عن ماركس وأفكاره، أراد شتاينفلد لكتابه أن يكون (كتاب أفكار) abook of ideas كما قال، أفكار مستقاة من الأدب وتاريخ الثقافة، ويبرر ذلك بأن ماركس في كل كتاباته كان دائماً يعبئ الثقافة التاريخية والأدبية للمواطن الليبرالي، وأن ألوان الأدب المختلفة يكمن فيها وعي ما (للمسائل الشبحية) التي تحدث عنها ماركس كالسلعة وغيرها.

من خلال منهجه في النقد الأدبي والأدب المقارن اكتشف شتاينفلد أن ثمة أفكاراً صيغت في أزمنة سابقة ومبكرة يعد تفكير حاضرنا متخلفاً عنها، صيغت هذه الأفكار الموجودة في ثنايا أدب تلك الفترة في شكل تأملات حول العدالة.

ويلخص شتاينفلد سبب اختياره هذا المنهج النقدي بالقول: إن البحث عن الأفكار القديمة وتطويرها من جديد سيكون أمراً مختلفاً وأكثر فائدة من الشهادة لفيلسوف ميت بالراهنية، ويقول: جميع العناصر التي تخص الاقتصاد هي تجريدات متخثرة حاضرة في كل مكان لأنها عشّشت في تفكير جميع الناس (كأشباح) دخلت إلى الوجود الحسي.

يقول شتاينفلد أيضاً: إنه عمل في كتابه على تتبع الحركات والمحاولات المستمرة لفهم كارل ماركس وما كتبه، ونجده تعامل مع نصوص ماركس (كخطاب) وعمل على تحليلها، يقول في ذلك: كثير من فقرات رأس المال صعبة فكرياً وحمّالة أوجه، وتفكير ماركس حسّي ولغته حسية، بوصفها أي الحسية سمة دعائية تحيط بأسلوبه للتحكم بانتباه القراء، ويتابع: ثمة أسباب فلسفية الطابع دفعت ماركس لاستخدام الأسلوب الحسي في (خطابه) ، ويستعرض شتاينفلد مواكب  الصور والاستعارات في كثير من نصوص ماركس، وينقل تحليل ألكسندر دوما (المؤرخ) لمصادر هذه الصور والاستعارات.

 

لماذا (سيد الأشباح)؟… شتاينفلد و(لعبة العنوان)

أصبح للعنوان اليوم سلطة على القارئ تشبه إلى حد ما سلطة النص، فالعنوان عنصر تواصل، أي يملك وظيفة تواصلية بين النص والقارئ، ويقوم بمهمة إعلان محتوى الكتاب وموضوعه. وتكاد العناوين اليوم أن تتحول في الكتابات الحداثية وما بعد الحداثية إلى نص مستقل، يخضع لعوامل دلالية وتسويقية، وبات له وظائف إغوائية وجمالية أيضاً.

يقول إيمون دولان مدير مؤسسة (بنغوان) البريطانية للنشر: يؤدي العنوان وظيفة على المستوى العاطفي والشعوري حيث يجعل القارئ يتوقف ليتأمل أو يستدعي ذكرى وانفعالاً (8).

في كتاب شتاينفلد ثمة عنوان اختاره الكاتب ليكون منذ الوهلة الأولى مثيراً، ويلفت انتباه القارئ ويدفعه للتأمل، وربما ليكون فخاً منصوباً للقارئ، كما يقول بعض النقاد، عندما يجعله يتخيل فيما وراء العنوان نصاً قد يخالف كثيراً مما عرفه عن ماركس، أو يستجيب لمعتقداته عنه، وكي يثبت حقاً أن العنوان هو عتبة انطلاق لنص الكاتب، تتجلى فيه رؤاه التخيلية.

لقد استعار شتاينفلد عنوانه (سيد الأشباح) من موضة الأعمال الأدبية، فهو منذ الوهلة الأولى يحمل نكهة خاصة تجعلنا نظن أننا أمام عمل روائي فانتازي. لكن هل هذا هو التفسير التأويلي الوحيد لعنوان شتاينفلد؟ بالتأكيد لا، فثمة تاريخ لهذه الكلمة مرتبط برمزية ماركس وبكتابات ماركس. وشتاينفلد لم يكن وحده من استعار مثل هذا العنوان للكتابة عن ماركس أو الماركسية.

فما هي رمزية الشبح أولاً؟ يقول جاك دريدا: (إن سؤال الأشباح يعني أن الموتى يمكن أن يكونوا أكثر حياة أي حيوية وحضوراً بالنسبة لنا، أو أكثر إخافة مما لو كانوا يسكنون معنا).

والفيلسوف التفكيكي دريدا نفسه هو الذي كتب (أشباح ماركس) في عام 1993، يتحدث فيه عن أشباح ماركس أي عن صوره الأليفة والمرعبة، التي تسكن لا وعينا السياسي والفكري وليل أحلامنا الموءودة، على حد تعبيره. ويقول دريدا موضحاً: إن الخوف الذي تركه شبح ماركس وفكره سكن القرن التاسع عشر كما القرن العشرين، وإن هذا الشبح أو الطيف أو الخيال أو الصورة لايزال يطارد الرأسمالية الحاضرة. بينما يقول شتاينفلد: حتى ماركس نفسه كان يستخدم كلمة الشبح في كتاباته، وثمة شخصيات شبحية في بعض نصوصه. ويتحدث شتاينفلد عن المصطلحات الاقتصادية التي كان يستخدمها ماركس مثل القيمة والمبادلة والسعر والملكية والسلعة بوصفها مجردات أو أشباحاً دخلت إلى الوجود الحسي. وفيما بعد تصبح الماركسية عند شتاينفلد شبحاً والشيوعيون أشباحاً وماركس نفسه يتحول إلى شبح.

بعيداً عن نص شتاينفلد نجد أن البيان الشيوعي نفسه أيضاً بدأ بجملة: (هناك شبح يجوب أوربا إنه شبح الشيوعية). ولودفيغ فيورباخ أستاذ ماركس في أحد كتبه يقول في عام 1841 (الفكرة المطلقة ليست إلا إيماناً بالأشباح).

أفكار ماركس التي عشّشت في كل مكان، تحدث عنها أيضاَ بهذه الصيغة الكاتب هنريك إبسن قبل وفاة ماركس بقليل في عام 1881 في مسرحيته (الأشباح) فنجده يقول: (بمجرد أن أفتح الجريدة أرى الأشباح بين السطور، بلدنا مليء بالأشباح، الأشباح في كل مكان).

إبسن كان يتحدث عن أفكار، أفكار جديدة.

أيضاً (كارل غوتسكو) الروائي والمسرحي والصحفي الألماني في روايته (فرسان الفكر أو الروح) (9) ذات التسعة مجلدات تحدث في عام 1850 بصراحة عما أسماه (أشباح الشيوعية) التي كانت تقض مضاجع مدير المراسم فو ن ريد.

في الخلاصة، صحيح أن (سيد الأشباح) عنوان إغوائي مثير وجميل ويحمل نكهة الأعمال الأدبية، لكن الصحيح قبل ذلك أن كلمة الأشباح هي عبارة تم استخدامها في وصف الأفكار الشيوعية كما رأينا، وأفكار ماركس أيضاً التي كانت تملك حضوراً مرعباً للرأسمالية في القرن التاسع عشر وفي القرن العشرين على حد سواء، وتملك في الوقت ذاته حضوراً محبباً أو أليفاً عند المؤمنين بأفكار ماركس.

في كلا الحالين أو التفسيرين أحسن شتاينفلد اختيار عنوانه، ونجح في إعادة إنتاج شعبية للعنوان الأساسي المختفي أسفل العنوان الأول (كارل ماركس قراءة معاصرة).

يقول شتاينفلد متسائلاً بمناسبة تجديد ذكرى ماركس: (إن ماركس بالنسبة للرأي العام جنّي في زجاجة مغلقة مرئية ومركونة على الرف، هل كان من المفترض إنزال الزجاجة وإطلاق الشبح منها ؟!).

 

 

هوامش:

1-      د. نبيل الحفار، الأستاذ في المعهد العالي للفنون المسرحية بدمشق، وأمين تحرير مجلة (الحياة المسرحية)، وهو خريج ألمانيا، ومعروف بترجماته عن الألمانية، وتوجد ترجمة سابقة بالعربية لكتاب شتاينفلد نشر جزء منها على شبكة الإنترنت في عام 2018 للمؤرخ والكاتب والمترجم المصري شريف الصيفي، المقيم في برلين.

2-      ترجم كتاب بيتر سنجر إلى العربية بعنوان: ماركس مقدمة قصيرة جداً، ترجمة أمير زكي، في نوفمبر 2018.

3-      صدرت أول طبعة عربية لكتاب فرانسيس وين في لندن في عام 2012، ثم صدرت طبعة ثانية عن دار سطور في عام 2020 ترجمة سعدي عبد اللطيف.

4-      صدر كتاب أتالي بالعربية تحت عنوان: (كارل ماركس فكر العالم، سيرة حياة) عن دار كنعان، دمشق 2008 ترجمة محمد صبح، وطبعة ثانية عام 2018.

5-      الكتاب غير مترجم للعربية، صادر بنسخته الإنكليزية عن دار ليتل براون الأمريكية، أيلول 2011.

6-      صدر كتاب هوبسباوم في عام 2011 عن دار ليتل براون، ثم ترجمه د. حيدر حاج إسماعيل إلى العربية في 2015 وصدر عن المنظمة العربية للترجمة ومركز دراسات الوحدة العربية، بيروت.

7-      عدا هذه الكتب التي عرضناها صدرت كتب كثيرة عن ماركس منها: ماركس ، تيريل كارفر (2018)، كارل ماركس حياة في القرن التاسع عشر، جوناثان سبيربر (2013)، مدخل إلى فكر كارل ماركس ، دنيز كولان (2018) ، كارل ماركس سيرة حياة فكرية، رولف هوسفيلد (2012)، كارل ماركس، مانويل سورينا (2005)، عدا الكتب القديمة المعروفة عن ماركس التي كتبها: ولهلم ليبنكخت (1896)، فلاديمير لينين (1918) ، فرانز مهرنغ (1919)، هنري لوفيفر (1954)، روجيه غارودي (1965)، لوي ألتوسير (1965)، ديفيد ماكليلان (1995)، وكتب أخرى لكتّاب عرب: عبد العزيز بو باكير (2020)، بدري يونس (2004)، هشام محمد (2011)، عبد الفتاح عصام (2008) ، فلاح الرهيمي (2011)، هيثم العطواني (2020).

8-      تحدث بعض الكتاب والنقاد عن (نظرية للعنوان)، راجع: في نظرية العنوان، مغامرة تأويلية في شؤون العتبة النصية، د. خالد حسين، دار التكوين، 2007، دمشق.

9-      كارل غوتسكو (1811) – (1878).

العدد 1104 - 24/4/2024