مفهوم العدالة
ريم داود نخلة:
لطالما شغل موضوع العدالة بال المفكرين واستقطب اهتمام الفلاسفة وخصوصاً القانونيين والناشطين الحقوقيين، بوصفها مطلباً وحاجة أساسية تسعى إليها جميع المجتمعات البشرية أفراداً وجماعات. وفي البحث عن تعريف العدالة نجد أنها تعني الموازنة بين أفراد المجتمع وإعطاء كل ذي حق حقه.
أما في الفلسفة فنجد أن العدالة قيمة أخلاقية تترافق مع مصطلح القانون على أن يتفق القانون مع قواعد وأحكام العدالة، إلا أن الفلاسفة اختلفوا في أساس هذه الفضيلة، فوجد بعضهم أنها تقوم على مبدأ احترام الاختلاف والتفاوت بين الناس باعتبارهم متمايزين في القدرات العقلية والجسدية، بينما وجد البعض الآخر أن العدالة تقوم على أساس تحقيق المساواة بين أفراد المجتمع باعتبارهم خلقوا من نفس واحدة، رافضين ما أتى به أنصار الاختلاف والتفاوت.
ووفقاً للطرح السابق لا يسعنا سوى أن نطرح السؤال التالي:
هل تكمن العدالة في التفاوت أم في المساواة؟
لقد انقسم الفلاسفة كما ذكرنا إلى تيارين متعارضين، أكد أنصار الاتجاه الأول، أي احترام التفاوت والاختلاف، أن الأفراد خلقوا متفاوتين مختلفين فيما بينهم من حيث القدرات العقلية والجسدية، ولكي تتحقق العدالة لا بدّ من أن نحترم هذا الاختلاف أو هذه الفروق، لأنه من الظلم والإجحاف أن نساوي بين الناس، ذلك أن المساواة بينهم ستؤدي إلى انهيار التوازن في الدولة، ومن أنصار هذا المبدأ أو هذا الاتجاه (أفلاطون، أرسطو، أليكس كاريل … وغيرهم).
▪︎العدالة عند أفلاطون:
يوضح أفلاطون مفهوم العدالة في كتابه (الجمهورية الفاضلة) وقد قسم المجتمع إلى ثلاثة أقسام أو طبقات: طبقة الفلاسفة والحكماء وهؤلاء فضيلتهم الحكمة وعليهم تيسير شؤون الدولة.
-طبقة الجنود والمحاربين وفضيلتهم الشجاعة ومهمتهم حماية مصالح الدولة.
-طبقة العبيد وفضيلتهم العفّة، أما مهمتهم فهي خدمة الدولة.
نجد أن افلاطون من خلال هذا التقسيم الطبقي للمجتمع يكرس مفهوم التفاوت، مؤكداً أنه من غير العدل والحق أن يقوم الأفراد الذين يتمثلون بالحكمة والقدرة العقلية بخدمة الدولة، في حين يقوم أفراد طبقة العبيد بتيسير شؤون الدولة، فهذا سيؤدي إلى اختلال توازن الدولة.
▪︎أرسطو والعدالة:
التفاوت قانون الطبيعة، هكذا عبر أرسطو عن تأييده لاحترام التفاوت والاختلاف، وقد أكد أنه ليس من العدل إعطاء متفاوتين حقوقاً متساوية، فالناس يولدون مختلفين، منهم القوي ومنهم الضعيف، وأنه من الظلم ان يبوّأ الغبي أو غير الكفء منصباً إدارياً هاماً، وعليه يرى أن الحقوق توزع على مبدأ الاختلاف كما تمنح المكافآت على أساس التفاوت، وكل حسب قدراته وإلا دخل المجتمع في دوامة من الصراع والنزاع.
▪︎العدالة عند أليكس كاريل:
يرى هذا الطبيب أن الناس يولدون متفاوتين في القدرات الجسمية، لهذا من الظلم أن نساوي بينهم في الحقوق نظراً لاختلافهم في أداء الواجبات، وهكذا ينضم أليكس كاريل إلى أنصار الاتجاه الأول في تأكيد مفهوم العدالة.
وعليه ووفقاً لما ذُكر من أفكار وآراء جاءت على لسان أصحابها وعلى الرغم من أننا لا نستطيع إنكار وجود تفاوت واختلاف بين الأفراد في قدراتهم العقلية والجسدية إلا أن الإقرار بالتفاوت المطلق أساساً للعدالة يؤسس لعدالة مسلوبة منتقصة وضعيفة مبنية على أساس التمييز العنصري والطبقي، لذا نجد أنصار التيار المعارض (تيار المساواة) يرون بالمساواة المطلقة أساساً للعدالة بين الناس، فانعدام المساواة قد يفتح باباً من الصراع والتمييز والتفريق والاستغلال بين الأفراد، وأي تفريق بينهم يعد ظلماً وإجحافاً. ومن مؤيدي هذا الاتجاه نجد (أصحاب نظرية العقد الاجتماعي، اتفاقيات حقوق الانسان، فلاسفة القانون الطبيعي، الفلسفة الاشتراكية …).
▪︎نظرية العقد الاجتماعي_ روسو والعدالة:
ترى هذه النظرية أن الناس خلقوا متساوين ويتمتعون بمساواة تامة، لكن رغبتهم في تنظيم الحياة وسعياً منهم نحو الارتقاء وعدم ضياع الحقوق دفعتهم لتفويض الحاكم والتعاقد معه لكي يسهر على مصالحهم وحقوقهم، على أن يكون هذا العقد قائماً على عدالة قوامها المساواة.
▪︎حقوق الإنسان والعدالة:
تسعى هذه المنظمة جاهدة منذ تأسيسها إلى تكريس مفهوم العدالة على أساس المساواة بين البشر، فالناس يولدون ويعيشون أحراراً متساوين في الكرامة والحقوق والواجبات.
_القانون والعدالة.
يرد مصطلح القانون مرادفاً لمفهوم العدالة، ولكي ندرك كلاً من المصطلحين لابد أن نتعمق البحث في كلا المفهومين.
يشير مفهوم القانون إلى نظام القواعد الذي يطوره المجتمع أو الحكومة من أجل التحكم في السلوك العام، على حين يشير مفهوم العدالة إلى المساواة والإنصاف كقيمة أخلاقية. يطرح هذا الجدل السؤال التالي: ما الفرق بين القانون والعدالة؟
لقد حاول البشر على مر التاريخ قمع السلوكيات المنحرفة وغير المرغوبة، بالاعتماد على الأعراف الاجتماعية والدينية وصولاً إلى ما يسمّى القانون. إذا فالقانون عباره عن قواعد وأنظمة مكتوبة تعمل على نشر السلام والحفاظ عليه ضمن مجتمع منظم بعيد عن الانحراف، في حين نجد أن جميع القوانين المنصوصة والمكتوبة والتي يعمل بها الحقوقيون والمحامون في المحاكم تستند في أدائها إلى مفهوم العدالة، مما يؤكد أن العدالة تفرض وجود القانون.
وينتقل بنا النقاش إلى سؤال آخر ألا وهو هل القوانين ثابتة أزلية أم أنها متغيرة متبدلة حسب الظروف الراهنة وتطور المجتمعات؟
إذا بحثنا جيداً في هذه الإشكالية سنجد أن القوانين بشكل عام وجدت للحفاظ على السلام وفرض النظام العام ضمن المجتمع، وعليه نستنتج أنه لا بد لهذه القوانين أن تتغير وتتبدل تبعاً للتطورات الحاصلة وظروف الحياة الراهنة، فما كان في الأمس نافعاً ليس بالضرورة أن يصلح لليوم أو أن يكون صالحاً اليوم، إذ نجد أن كثيراً من القوانين التي تتبعها الحكومات وخاصة العربية منها أصبحت بالية مر عليها الزمن، وهذا دليل كافٍ على ضرورة تعديل القوانين وتغييرها وفقاً للزمان والمكان وإلا أصبح القانون مجرد صكوك منصوصة لا علاقه له بتحقيق العدالة المنشود لها.
وخاتمة القول إن العدالة مفهوم أخلاقي لا يتحقق وفق مبدأ المساواة المطلقة ولا وفق مبدأ التفاوت المطلق، فهي انسجام وتكامل بين المساواة مع احترام التفاوت بين البشر.
فلا يمكن اختزال العدالة بالمساواة المطلقة بحجة أن البشر خلقوا مشتركين بالطبيعة الانسانية، كما لا يمكن اختزالها بالتفاوت المطلق بحجة أن البشر متمايزين مختلفين بالقدرات العقلية والجسدية بل تتحقق العدالة بالتناغم والتوازن بين الاتجاهين.