سوريون يحلّقون في فضاء الترف وآخرون يهبطون إلى مستنقعات الفقر والتلاشي

إيمان أحمد ونوس:

إن المتابع لواقع المجتمع السوري، يتلمّس بلا أدنى عناء المستوى المعيشي المتهاوي يوماً بعد آخر للغالبية العظمى من السوريين الذين لا يحصلون على ما يسدُّ رمقهم وأطفالهم إلاّ بشقّ الأنفس، يغوصون في مستنقعات المرض والفقر والجوع، ويلوذ بعضهم ببقايا الخضروات والفواكه ونفاياتها المرمية على أبواب المحلات والأسواق، لأنه لا يستطيع شراءها بشكل مباشر لارتفاع أسعارها، حتى باتت الفاكهة بكل مواسمها وأصنافها حلماً عصيّ المنال، وهنا لا نستغرب إذا ما علمنا أن بعض الأُسر يقتصر طعامها على وجبة واحدة قوامها غير كافٍ لتأمين احتياجات الجسد. طبابتهم اقتصرت على الصيادلة الذين يستدينون منهم الأدوية التي يصفونها لهم، وغالباً ما يختارون أدوية رخيصة الثمن حتى لو لم تفِ بالغرض المفروض كلياً، وغالبية الأمراض البسيطة يتمّ تجاهل مداواتها.

بالتأكيد الحديث يطول ويطول وربما يحتاج إلى مجلدات لتوصيف حال غالبية السوريين الذين اختفت من بينهم ما كانت تُسمّى الطبقة الوسطى، الحامل الرئيسي والمعني بالتغيير والتطوّر، فقد بدأ حال هذه الطبقة بالتدهور منذ أعوام سبقت الحرب، بسبب الإجراءات الحكومية المعتمدة، لا سيما تلك المتعلّقة بنهج اقتصاد السوق الاجتماعي، الذي أدى إلى زعزعة استقرار المجتمع السوري مادياً واجتماعياً وأخلاقياً بما قاد لاحقاً إلى مجريات الحرب، التي أدّت فيما أدّت إلى تلاشي هذه الطبقة وانهيارها تحت ضربات الحرب وتبعاتها، التي لعب تُجّار الحروب دوراً أساسياً في تعاظم تلك التبعات وتدهور الوضع المعيشي، حتى بات المجتمع منقسماً ما بين طبقتين لا ثالث لهما: طبقة مخملية لا تُشكل نسبة تُذكر بالقياس إلى مجموع السكان الذين شكّلوا بغالبيتهم ومعهم مختلف العاملين في القطاع الحكومي بسبب تدني الأجور والمعاشات التي لا يمكنها اللّحاق بركب الأسعار لمختلف الاحتياجات المعيشية والصحية والتعليمية وووو الخ، شكّلوا طبقة المسحوقين والمهمّشين والمغيّبين حتى عن إنسانيتهم.

أمام هذا الواقع المُزري والرهيب، غالباً ما نسمع أو نرى أو نقرأ في وسائل التواصل الاجتماعي وحتى الإعلامي عن احتفالات أسطورية خرافية تُقام في فنادق أو قاعات فخمة لأعياد الميلاد أو الولادة أو الخطوبة والأعراس وما شابهها.. وبذخ يعيدنا إلى حكايات ألف ليلة وليلة، فتُرصد الملايين لإحضار الورود أو الثياب أو الإكسسوارت من دول أجنبية، وكذلك المأكولات والحلويات التي يُشرف عليها موظفون استقدموا أيضاً من تلك الدول، إضافة إلى الاستعراضات الفخمة لمجريات تلك الحفلات المُستقاة من الروايات والأساطير. لاشكّ أن في هذا تناقضاً رهيباً في بلد ما زال يعيش حالة الحرب والحصار والعقوبات، كما أنه مؤشّر خطير عن الانقسام الحاد والرهيب في المجتمع السوري، لأسباب بعضها معروف وبعضها الآخر ربما يكون مجهولاً.. انقسام جعل قلّة ضئيلة تتمتّع بكل الخيرات والمغانم والمكاسب، وتعيش حياة ترف مدهشة ومذهلة، بينما الأغلبية تغوص في قاع الحياة بحثاً عمّا يُبقيها على قيد وجود لا شبيه له حتى عند الكائنات الأخرى، وهذا ما يجعلنا نعيد السؤال ألف مرّة بل آلاف المرّات: من أين لأولئك المحتفلين القدرة على تأمين مصاريف تلك الحفلات الخيالية، لاسيما الأثرياء الجُدُد الذين نبتوا كالفطر في الغابات؟ هل فكّر أحدهم أن مصاريف حفلة واحدة كفيلة بإنقاذ حياة أطفال يتضورون جوعاً أو يئنون وجعاً بينما هم يلقون ببقايا احتفالاتهم في حاويات النفايات؟

لا يمكننا أن ننفي عن غالبية أولئك المترفين أنهم هم السبب وراء جوع مئات الألوف من السوريين وأنينهم، بما جمعوه من أموال جلبتها لهم الحرب التي لا يريدون لها أن تتوقف كي لا تنخفض أرصدتهم ولا يخسروا ترفهم المشبوه، مثلما لا يمكننا إغفال دور الحكومات المتعاقبة في استمرار هذا الواقع اللاإنساني، من خلال سياساتها التي لم تأبه يوماً لا للأمن الغذائي، ولا لشرائح كبيرة كانت ضحية حرب لا ناقة لها فيها ولا جمل، والأبشع في كل هذا أن لا أحد يُسأل أو يُحاسب؟

العدد 1104 - 24/4/2024