بين ترفهم وعوزنا سقطت الرحمة تحت خط الصفر

وعد حسون نصر:

سابقاً كانت الطبقات الاجتماعية في كل مجتمع تقسم إلى ثلاث طبقات أو أربع، بدءاً من الأرستقراطية بكل شرائحها: سياسي، تاجر، سفير، صاحب نفوذ، وصولاً إلى الطبقة المعدومة كلياً، وكنّا نجد أن بين هذه وتلك طبقات أو شرائح متنوعة كصغار الكسبة والموظفين والأطباء والمحامين، والتجّار العاديين. والطبقة الوسطى هذه كانت تشكل نسبة كبيرة في المجتمع، وأقل ما يمكن قوله إنها كانت تمتلك قوتها اليومي، إضافة إلى أن كثيرين منهم لديه بيت وسيارة نوعاً ما جيدة.

والسؤال هنا: أين اختفت الطبقة الوسطى في زحمة الحروب والوباء؟ أين هي الآن؟ هل سُحِقَتْ تحت أقدام تجّار الحرب؟ هل مُزِّقَتْ ببراثن أصحاب النفوذ من مستحدثي النعمة؟ هل طُحِنَتْ بأنياب ذئاب الفاسدين من مجرمي الحرب وبائعي الأوطان وشاربي الدم؟!

نعم، لقد اختفت هذه الطبقة بموت ضمير من خرج من القاع، بفضل العوامل المناسبة له، وراح يعلو القمة ويدوس علينا جميعاً، فمن ذاق حلاوة العسل لا يمكن أن يعود من جديد للعبث بخلاياه متأثراً بلسعات النحل، الفقر بشع لمن خرج منه لدرجة أنه يقتل نفسه كي لا يعود إليه من جديد.

هذا الشرخ الكبير في طبقات المجتمع بات واضحاً في سورية في الآونة الأخيرة، عندما بتنا نلاحظ أن أشخاصاً، لكثرة الترف والبطر، يختلقون مناسبات ليصنعوا السعادة لنفسها، وليُبرزوا ذواتهم على حساب جوع الملايين، وغدا الحمل والولادة عند هؤلاء مناسبة تصدح لها البلاد وتفتح لها الفضائيات في بثها المباشر، وحتى جنس المولود أصبح أهم من قضية اغتصاب وطن وتشريد أهله، في الوقت الذي تُنار فيه أبراج بلون أزرق أو زهري لتخبر عن جنس طفل لعائلة من عائلات الوطن، وتنطفئ الكهرباء عن الملايين في هذا الوطن ويغزو الظلام نفوسنا قبل بيوتنا، والبرد يفترش أجسادنا في الوقت الذي تفرش حرارة الفرح قلوبهم هم. وفي حين تتناول إحداهن مولودها الأول من فوق عرش ملكي وبأفخم فندق وتحت أضواء ساطعة مزركشة وملونة وبثياب فاخرة، أمام طاولات الطعام الشهي من لحوم وحلويات ومقرمشات وعصائر ومشروبات، وفي بقعة أخرى من الوطن ذاته توجد عائلة محرومة من طفل ولا تستطيع أن تدفع كشفية طبيب لتعالج حالة من العقم، وعائلة أخرى تمتلك طفلاً أو أكثر لكنها لا تملك فراشاً للنوم ولا قوتاً لسدِّ رمق الجوع ولا حتى جاكيتاً يستر الجسد ويدفئ من البرد. ولا ننسى أنه في الوقت الذي يقطع فيه طفل في زاوية من زوايا الوطن قالب حلوى عيد ميلاده، بحضور رسمي ومخملي وما طاب من الطعام والشراب والهدايا من كل صنف ولون، ومجوهرات وعطور وألعاب، هناك في الزاوية الأخرى طفل لا يملك حذاءً فضلاً عن لعبة. نعم، هنا تكمن المفارقة بين من ذاق حلو الطعام ومن نام وريقه مرٌّ من مرارة الحرمان.

ربما لا يحق لنا المقارنة، لكن يحق لنا السؤال: من أين لكم هذا؟ هل ولدتم وفي أفواهكم ملاعق من ذهب وفضة، أم ضمائركم أورثتكم ما في جيوبنا، أم أن الحرب قسّمت بيننا الأرزاق لتكونوا أنتم تجّارها ونحن رعاة ننتظر ما يسقط من بين أصابعكم من فتات نأكلها بحمدٍ ظنّاً منّا أنها طعمة من الأرزاق.

ليس كل من صعد القمة بنفوذه وماله هو ابن لعائلة ملكية، ولا كل من أشعل شمعة زواجه وميلاده في فندق خمس نجوم هو ابن وزير أو حاكم.. كثيرون ممّن بلغوا العُلا صعدوا فوق أكتافنا، أغرقونا ليستقيموا في الأفق، وصنعوا من المال نفوذاً وسياجاً، ونصبوها في وجوهنا، حتى إننا لم نعد نراه لارتفاع الحائط بيننا ولا هو بات يرانا لأنه لا يستطع بسبب ثخانة عنقه أن يرنو للأسفل، وهنا بين السطح والقاع ضاع الوسط ودفن في جملة المبادئ، فلا يستطيع الصعود للأعلى ولا يمكنه النزول للأسفل، فلاذ بالفرار بقيم بالية، ورويداً رويداً سينهار جزء منها للأسف، ومن ينجو سيدوس كمن داس على رؤوس من تبقّى ويتكمّش بأطراف ثياب من في الأعلى، وربما يخرج مستقيماً أو يبقى كعلاقة المفاتيح على أطراف الملابس تخشّ فقط دونما نفع، وتُبدّل كما تُبدّل الملابس، مع فارق أنها لا تُغسل بل تُرمى ليشتري مالكها واحدة جديدة بأمواله، وهنا نصحو على صوت خشخشة لعلاقة جديدة لنجد أنفسنا أننا من بقايا وطن لا ندري ما إن كنّا ورثة فيه!

العدد 1102 - 03/4/2024