في يوبيلها الفضي.. محميّة الشوح والأرز مهدّدة بالاندثار

صفوان داؤد:

كان من وعي الإنسان ببيئته وإدراكه أنه جزء من الطبيعة التي يعيش فيها أن وجِد ما سُمِّي لاحقاً بالمحمية، وهي مساحة جغرافية برية أو مائية كبيرة بدرجة كافية لاستعادة وضعها الطبيعي في حال تعرّض بعض أجزائها لقدرٍ من التدهور أو التغيّر.

غالباً ما تتضمن المحميات أحياءً مهدّدة بالانقراض ومرتكِزة على نظام إيكولوجي دقيق. في البداية كانت المحمية شيئاً من قبيل الطقوس الدينية لحماية طواطم مقدسة. وعُثر على أول توثيق غير ديني لمحمية، فيما يُعرف حالياً بالهند يعود إلى عهد الإمبراطور أسوكا في القرن الثالث قبل الميلاد. بعد ذلك بألف عام تقريباً نُسِبَ إلى ملك إنكلترا وليم الأول إصداره ما يشبه قانون المحميات. لكن يُعتبر القرن العشرين قرن إنشاء المحميات، وقد انتشرت بكثافة حول العالم.

تتميز الحياة البرية في سورية بتنوع بيولوجي واسع وعدد لا بأس به من النظم الإيكولوجية الغنية، البرية والبحرية. هذا عائد لما تتمتع به البلاد من تنوع مناخي وجغرافي. في عام 1978 أقامت وزارة الزراعة حزاماً أخضر حول المناطق الصحراوية لمنع التمدد الصحراوي، ثم أطلقت عام 1980 مشروع إحياء الحياة الحيوانية البرية المهددة بالانقراض، واستطاع هذا المشروع أن يعيد إحياء عدد من الكائنات منها الحمار الآسيوي والغزال إلى البراري السورية.

وكان الهدف من تأسيس المحميات الطبيعية في سورية صيانة بعض النظم البيئية الفريدة فيها، وإعادة ترسيخ التنوع الطبيعي مع إمكانية الاستثمار السياحي لها. بلغ عدد المحميات الطبيعية 30 محمية منتشرة في مناطق مختلفة من البلاد، من أهمها: محمية جبل عبد العزيز في محافظة الحسكة، محمية الشوح في جبال الساحل، محميتي جبال الشومرية والجبل الوسطاني في المنطقة الوسطى. محمية البلعاس ومحمية التليلة في البادية، وهذه الأخيرة هي أولى المحميات في سورية.

تعتبر محمية الشوح والأرز في جبال الساحل السوري، التابعة إدارياً لمحافظة اللاذقية، من أهم المناطق الطبيعية، ليس على مستو سورية وإنما على مستوى شرق المتوسط، لما تتضمنه من أنواع نادرة ومحدودة الانتشار وما يزيد عن 200 نوع نباتي مختلف. وتصنف على أنها نظام غابوي جبلي ينتمي إلى نطاق بيومناخي رطب علوي بارد. أقر إنشاء المحمية بالقرار الوزاري رقم 19 لعام 1996 الصادر عن وزارة الزراعة والإصلاح الزراعي وفق التعريف: محمية بيئية حراجية ذات طابع علمي تدريبي مع استغلال سياحي مدروس. وتبلغ مساحة المحمية 1350 هكتاراً مع اقتراح التوسع إلى 20000 هكتار.

بعد ربع قرن على إنشائها تواجه محمية الشوح والأرز مصيراً قاتماً، وهي أكثر من أي وقت مضى مهددة بالانهيار. لم تترك الحرب السورية مكاناً إلا وكان لها منها نصيب، سواء بشكلٍ مباشر أو غير مباشر. وكان للمحمية منها نصيب؛ أدى انخفاض توريدات المازوت والغاز المستخدمة للتدفئة إلى تحول السكان المحليين إلى التحطيب، خاصة أن المناطق المحيطة بمحمية الشوح من المناطق الباردة وتنال أكثر من 300 ساعة سنوياً من البرد والصقيع. وعند الحديث مع الأهالي حول خطورة قطع الاشجار ومعظمها معمّر، يأتيك جواب واحد تقريباً: (عندنا أطفال وهم يحتاجون إلى الدفء). وعند سؤال الجهات المعنية عن ضرورة توفير إمدادات الطاقة للتدفئة يأتي الجواب المُبيْن! أن الحكومة وفّرت مخصصات من المازوت المنزلي لهذه المناطق، لكن عند التدقيق في السؤال: هل قامت الحكومة بتأمين المخصصات بشكل كافٍ؟ يأتي الجواب بالصمت. والحقيقة أن الأهالي كانوا ومازالوا يقطعون الأشجار ما دامت لا تتوفر لهم بدائل تدفئة أخرى.

يهدد المحمية خطرٌ آخر وهو ما يطلق عليه محلياً اسم المفاحم، وهي عبارة عن حفر بقطر 3 إلى 5 أمتار تُنشأ في قلب المحمية، يجري فيها تحويل أغصان الأشجار إلى فحم النرجيلة، عبر طمر الحطب المقطوع بالتراب كي يتفحم دون احتراق، وإذا علمنا أن المفحمة لا يمكن نقلها بل تبقى مكانها فإنه من المثير للدهشة أن نوثّق عشرات لابل المئات منها منتشرة ضمن أدغال محمية الشوح والأرز وتعمل بشكلٍ منتظم على مدار العام.

لا يمكن أن نفهم ذلك إلا بتواطؤ مخزٍ بين عدد من المسؤولين داخل مديرية الزراعة في اللاذقية، و(معلم) الفحامين العاملين في قلب المحمية. وعند محاولة سؤال كاتب هذا المقال لموظفين من داخل مديرية الزراعة، ليس فقط تهرّب الجميع، بل أصابهم الخوف والهلع الشديدين عند فتح هذا الموضوع! تكرر هذا المشهد داخل مبنى محافظة اللاذقية، فيما كان موظفو مديرية بيئة اللاذقية في المريخ. واحد فقط من الموظفين الشجعان اشترط التحفظ على موقعه الوظيفي أجاب إن قضية المفاحم أكبر من قدرة أي جهة مدنية أو أمنية ضمن المحافظة على حلّها.

هذا صحيح؛ يكاد لا يخفى على أي مواطن يعيش في محافظة اللاذقية إلا ويعلم أن تجارة فحم النرجيلة في الساحل مرتبطة بمافيا محمية من أشخاص نافذين، أو بالأحرى من شخص سوبر نافذ من ذلك المكان الذي اسمه معروف. وتتضمن هذه المافيا عمّال تقطيع وتفحيم لا يمكن لحرس الغابات توقيفهم، وسيارات مُفيّمة مخصصة للنقل لا يمكن لشرطة المرور توقيف سائقيها، وموزعو جملة لبيع الفحم لا يمكن لحماية المستهلك توقيف بائعيها.

المحمية خسرت ما يقارب خُمس مساحتها خلال العامين الماضيين من الحرائق والتعديات الممنهجة، وربما لن تعمر ليوبيلها الذهبي إذا بقي الوضع على ما هو عليه الآن.

يقول المؤرخ ثاقيطس: (الجريمة متى انكشفت، لا يبقى شيء سوى الوقاحة)! والوقاحة هنا رأيناها على حد سواء، عند الموظفين الحكوميين المشرفين على المحمية، كما عند المخربين المسؤولين عن تدميرها، ولا تفاضل في وقاحتهم وتساوي إجرامهم. وباسم كل الغيورين على البيئة في سورية أن تتبنى جهة لها ما يكفي من القوة أن تواجه هذه القضية، فالمحميات كنز إنساني ووطني لا يقدّر بثمن.

العدد 1104 - 24/4/2024