سقوطٌ يدفع للنُّهوض مجدداً

إيناس ونوس:

ذات يومٍ، فيما مضى من السَّنوات، دخلت البيت وإذ بي أرى ابني يستشيط غيظاً، باكياً بحرقة، وبعد عدَّة محاولاتٍ لتهدئته ومعرفة سبب هذا الغضب كلِّه، استطاع أن يشرح لي الأمر. بدأ يتكلم وهو دامع العينين، وبصوتٍ مخنوقٍ قال: (لا أفهم كيف لزميلي في الصَّفِّ أن يأخذ علامةً أعلى من علامتي؟؟ أنا الذي ساعدته حتى تمكَّن من فهم كلِّ الدُّروس!!!).

لوهلةٍ، كادت ابتسامتي تظهر على شفاهي، فقد بدا لي الأمر، شكلياً، بسيطٌ ولا يحتاج إلى كلِّ هذا الانفعال، لكني فضَّلت أن أشغل نفسي لبضع دقائق بتحضير فنجانٍ من القهوة، كي أتمكَّن من الدُّخول إلى أعماق ابني ورؤية الموضوع من وجهة نظره هو وليس من وجهة نظري.

جلسنا نستعيد ونناقش ما الذي حدث بالتَّفاصيل، فأدركت أن ابني يشعر بالغيرة من زميله لأنه تفوَّق عليه هذه المرة، وحصَّل علامةً أفضل منه، وهو الذي اعتاد على ألاَّ يسبقه أحدٌ أبداً، ولم يرضَ منذ صغره أن يتقبَّل فكرة أن تكون علاماته ناقصةٌ ولو أجزاء بسيطة، ما جعله هذه المرة يشعر بكمٍّ كبيرٍ من الألم والحزن، واستفاض بالحديث حتى أخرج كلَّ ما بداخله، ووعد نفسه أمامي أن تكون هذه هي المرَّة الأخيرة في حياته. شرحت له أن الإنسان لا بدَّ أن يخطئ، وأنَّه ما من شخصٍ إلاَّ وتعثَّر هنا أو هناك، لكن هذا ليس بالكارثة أو المصيبة الكبرى التي لا حلَّ لها كما يراها اليوم، أو التي تدعو للخجل، أو القنوط، المهم أن تكون دافعاً له كي يتجنَّب الوقوع في الخطأ ذاته في المستقبل، والاستمرار في المحاولات عدَّة مرَّاتٍ حتى يصل إلى النَّتيجة التي يبتغيها.

مع مضي الوقت لاحظت على ابني تغيّراً تجلَّى بالمزيد من الاهتمام والحرص على متابعة دروسه وتحصيله، وحينما حاورته، شرح لي بأسلوبه الخاص أن الحادثة السَّابقة شكَّلت له درساً لن ينساه، وأنه بعد أن شعر بكلِّ ذاك الغضب والغيرة، تبلور بداخله شعورٌ بالامتنان لما حصل، لأنه وضَّح له أنَّه بإمكانه أن يزيد التَّركيز أكثر، وألا يشعر بعد اليوم بأنَّه أفضل من غيره، بل صار ينتبه لمن حوله محاولاً التَّمثُّل بالأشخاص النَّاجحين في حياتهم ليتَّخذ منهم قدوةً له، ويحدِّد بشكلٍ أكثر وضوحاً أهدافه المستقبلية ويعمل جاهداً لتحقيقها والوصول إلى ما يطمح إليه.

انتابني شعور بالقلق تجاه كل تلك الأفكار، وخشيت أن تكون غيرته عمياء تودي به إلى الهلاك، ما دفعني للبحث واستشارة أهل الخبرة بهذه الأمور، لأتمكَّن من فهم آليات التَّعامل مع حالته هذه، ففهمت أنه يشعر بنوعٍ من الغيرة الإيجابية، كما وصفها أحد الأطبَّاء النَّفسيين، التي من شأنها أن تدفع الإنسان لتطوير مهاراته وقدراته والبحث عن أيّ جديدٍ يساهم في ذلك، مع ضرورة الانتباه بألاَّ تترافق هذه الحالة مع نوعٍ من التَّباهي أو الغرور، وأفادتني تساؤلاتي تلك بأن أوجه هذه الغيرة بالشَّكل الذي يجعلها تثمر نتائج إيجابيةً على كلٍّ من المستوى الشَّخصي، الاجتماعي، النَّفسي والأسري أيضاً، حتى وصلت اليوم مع ابني إلى ما هو عليه اليوم، فهو رجلٌ متميِّزٌ، ناجحٌ بمجال دراساته وعمله، محبوبٌ ومرغوبٌ ممَّن حوله، حتى أنه بات يشكِّل نموذجاً لغيره بعد أن كان يتمثَّل الآخرين ويقتدي بهم.

جميعنا نتناول موضوع الغيرة في حياتنا وبأحاديثنا عموماً فقط من جانبها السَّلبي، محاولين التَّمحيص في أسبابها وطرق معالجتها ومعالجة نتائجها الكارثية، غير أن للغيرة وجهها المعاكس تماماً الذي إن استطعنا توجيهه بالشَّكل الصَّحيح لوصلنا مع من يعيشونها إلى مراحل جيدة من التَّطور والنُّمو، وهذا طبعاً لا يقتصر على الأشخاص كأفراد فقط، بل إنه يمكن أن يشمل الدُّول أيضاً، شريطة توفُّر عدَّة عوامل، وأهمُّها:

– حبُّ الذَّات (الشَّخصية أو العامة) البعيد كل البعد عن الأنانية، ما يرتبط ارتباطاً وثيقاً بحبِّ الآخرين والرَّغبة بإفادتهم.

– القناعة بالإمكانيات والعمل الدَّؤوب على تحسينها وتطويرها.

– التَّعامل مع حالات النُّكوص على أنَّها عوامل دافعة ومشجِّعة للنُّهوض مجدداً، وعدم الاستسلام أو الانهزام.

– وضع أهداف واضحة ومحدَّدة والعمل على الوصول إليها.

– الرَّغبة بالتَّطور الدَّائم، وإدراك أن الحياة تحمل النَّقيضين (السَّالب والموجب) وهو ما يستدعي ضرورة امتلاك آليات الوعي بأنَّ كلَّ ناجحٍ سبق له أن فشل مرَّاتٍ ومرَّات، فالحياة لا تقبل الضُّعفاء.

إن امتلكنا هذه الشُّروط بكامل القناعة والإرادة، فغالباً ما سنتمكّن من الوصول إلى كلِّ ما نطمح إليه، الأمر الذي سينعكس بالفائدة الخاصَّة علينا والعامَّة من خلال تعاملنا مع المحيط الذي نعيش ضمنه.

العدد 1104 - 24/4/2024