أشعر بفراغ كبير كأنني حبّة دوناتس

ريم داوود:

أشعر بفراغ كبير كأنني حبّة دوناتس.. هكذا استهلّت إحدى الفتيات حديثها أثناء لقائي بها، تشبيه واستعارة أصابت بها الفتاة في وصف ما ينتاب خلجاتها، ويا له من تشبيه بليغ!!

لم تستطع تلك الشابة التعبير عمّا تعانيه من فراغ وضيق بجمل مقفاة منمّقة، وعندما سألتها: كيف يمكنك أن تخبريني بكلمات بسيطة توضحين بها شكواكِ؟ أجابت:(انت بتعرفي حبّة الدوناتس كيف بتكون فاضية من جوا، أنا حاسة حالي هيك، وهاد الفراغ مدايقني كتير). مجموعة من العبارات طرحتها تلك الشابة جعلتني أفكّر في خلوة كم هي عاجزة عن فهم ذاتها حتى تعاني ما تعانيه من الضياع والضعف والضيق.

يعاني معظم الناس في أيامنا هذه فراغاً يستهلك أوقاتهم وحياتهم دون التفكير في الاستفادة من هذا الوقت الثمين، في حين نجد البعض الآخر غارقٌ في هموم الحياة لا وقت لديهم سوى للنوم. كبرتُ وترعرعت على مقولة كان صداها في أذناي ذا وقع أضخم من معناها، فلم أفهم في صغري ما كانت تلك الكلمات تعني (الوقت كالسيف إن لم تقطعه قطعك) عبارة ملأت جدران المدارس وأروقتها بأحرف زيّنت أبواب الصفوف.. كلمات لم أعِ في ذلك الوقت ماخُبّئ بين طيّاتها من دلالات ومفاهيم سامية. أخذتُ أفكّر لبرهة ما الذي يدفع بالإنسان إلى الفراغ، وهنا لا أقصد به الفراغ الطبيعي ووقت الراحة، إنما الروتين اليومي من أوقات الفراغ الطويلة؟ وما هي الأساليب التي من شأنها الحدّ والحيلولة من استنزاف هذا الوقت؟

في الحقيقة ينشأ الفراغ غالباً عن كسل وعجز ناتج عن عدم التخطيط ووضع الأهداف اللازمة لحياة أي شخص، والتي تسهم في دفع الإنسان إلى العمل والمثابرة لتحقيق تلك الأهداف. فآفات الفراغ تخلق آلاف الرذائل، حتى الطبيعة نفسها تعمل على زلزلة باطنها بهدف ملء ما في جوفها من فراغ فكيف هو الحال بالنسبة للإنسان؟ يقول باولو كويلو وهو كاتب وروائي شهير (ما لم تنفردوا بأنفسكم يوماً، فلن تعرفوها، وإذا لم تعرفوا أنفسكم ستبدؤون بخشة الفراغ) في الحقيقة أنا أتفق كل الاتفاق مع ما طرحه كويلو، فالإنسان يحتاج في كل يوم أن يعود لذاته مع نهاية اليوم وحلول المساء، فمن المفيد جداً، بل ومن الضروري أن نعود لذواتنا نحاور أنفسنا ونحصي كم من الإنجازات حققنا، ما هي المتغيّرات التي حصلنا عليها؟ وما الأشياء الجديدة التي نلناها؟ إن في الخلوة مع الذات امتلاء القلب، والفكر تأمّل نحقّق من خلاله الهدوء والتوازن والسكينة، وندفع أنفسنا لمواصلة الطريق ومواجهة الضغوطات التي تحيط بها، حيث نسعى من خلال خلوتنا للبحث عن آفاق جديدة للذات، ففي التوحّد مع ذواتنا بناء روحي نرتقي به.

 يؤسفني مظهر شبابنا وشابّاتنا والانحدار الثقافي الذي آلت إليه أحوالنا، وهنا لا ألجأ إلى التعميم البتة، ففي التعميم مغالطة وظلم لا أصبو إليه. لكن ليس خافياً على أحد منّا المشهد الغالب في مجتمعنا من لقاءات، سهرات، حفلات، رحلات وتسوّق يقضي فيه الشباب الذين هم عماد هذا المجتمع وبُناته وحجر الأساس الذي نعوّل عليه، يقضون ساعات وساعات أمام شاشاتهم الذكية دون التفكير في استغلال جزء من هذا الوقت بما يفيدهم. فهل غاب الطموح عن حياتهم؟ أم أنهم من الصغر لم يحدّدوا أهدافهم؟ وفي كلا الحالتين، ويلٌ لمجتمع شبابه غارق في الأحلام!

إن استغلال وقت الفراغ نعمة في يدي من يمتلكه، ومفتاح للنجاح والنجاة، فلندرب أطفالنا منذ الصغر على استغلال أوقاتهم لنيل ما يتمنون من مراتب العُلا، وبذلك تُبنى لديهم شخصية سوية متكاملة على الصعيد الأسري، الذاتي، الاجتماعي، الإيماني، والمهني.

العدد 1104 - 24/4/2024