مشاهد من زمن كورونا

طلال الإمام – استوكهولم:

رحلة في النقل العام

منذ بدء الجائحة والهلع يلاحق المجتمع بأشكال ومستويات متفاوتة. صار بالإمكان ملاحظة ذلك، مثلاً، في عيون مستخدمي وسائل النقل العام (الباص، المترو) وسلوكهم.

* إياك أن تسعل، لأن أي سعال مهما كان خفيفاً يجعل الأنظار تتوجه اليك بالشك والريبة وكأنك تنشر الفيروس.. فأنت متهم والتهمة جاهزة.

* إن صعدت الى أي وسيلة نقل فإياك أن تجلس بجانب أي راكب آخر.. الآن تسري قاعدة غير مكتوبة: في كل مقعد راكب حتى ولو كان المقعد يتسع لاثنين أو أربعة أو أكثر.

* إياك والاقتراب من سائق الباص، فهو معزول بألواح بلاستيكية أو زجاجية.

* في محطات الصعود والنزول يا ويلك إن اقتربت من راكب آخر مسافة أقل من متر.

صعدت مرة الى المترو.. كانت سيدة تجلس وحدها في مقعد يتسع لخمسة ركاب.. ما إن اقتربت للجلوس في المقعد نفسه طبعاً، محافظاً على التباعد، لعدم وجود أماكن أخرى فارغة، حتى نهضت مسرعة وكأن تياراً كهربائياً مسّها.. غادرت وهي تنظر إليّ وتبربر.

حدثني صديقي أنه كان يستقل القطار للسفر إلى مدينة أخرى.. كان يجلس خلفه راكب شاب.. اضطر صديقي للعطس، طبعاً وضع كوعه على أنفه. وقف الراكب خلفه وتقدم من صديقي وهو يبربر بحدة.. سأله صديقي عن السبب، أجابه: (إن كنت تعطس يجب عليك البقاء في المنزل)! إنه زمن كورونا. أجابه صديقي (وهو بالمناسبة طبيب نفسي): أنا اتبعت القواعد المطلوبة في حال السعال أو العطس. لم يعجبه الكلام، نظر إليه شزراً وانتقل إلى مقعد آخر في عربة أخرى.

هذه مشاهد بسيطة وسريعة للتحولات التي تطرأ على سلوك المجتمع والأفراد في زمن كورونا. تُرى هل ثمة مبالغة؟ هل هناك مستفيد؟ من ولماذا؟

بغض النظر عن الاتفاق أو الاختلاف في الإجابة.. ثمة تغييرات تطرأ.. الأمل ألا تكون البشرية شاهد زور.

 تعليب المشاعر الإنسانية

تخيّل أنك لا تستطيع زيارة مريضك حتى ولو كان أحد أفراد عائلتك في المشفى!

تخيل أن تفقد عزيزاً ولا تستطيع وداعه إلى المقبرة ولا إقامة عزاء!

تخيّل أن يتزوج ابنك / ابنتك ولا تتمكن من دعوة أقرباء واصدقاء لمشاركتك الفرحة!

تخيل ألا تتمكن من دعوة سوى عدد محدود جداً للاحتفال بعيد ميلاد أحد أفراد أسرتك!

وتكبر قائمة الإرشادات والممنوعات في زمن كورونا..

هذا الفيروس اللعين جمّد مشاعرنا الإنسانية في الحزن والفرح.. اشتقنا لحفلة عرس أو سهرة في مطعم نرقص حتى الصباح..

اشتقنا حتى لسهرة مع أصدقاء وأقرباء يتجاوز عددهم الثمانية أشخاص (بمعنى إن كان عدد أفراد الأسرة خمسة فلا يحق لهم دعوة سوى ثلاثة).

المجتمع بأكمله يتحوّل تدريجياً إلى وحدات منفصلة عن بعضها البعض.. حتى البارحة كان الحي كله تقريباً أو القرية تتقاسم مشاعر الفرح والحزن.

ماذا يجري؟

كل يوم تعليمات جديدة بين إغلاق كامل أو جزئي.. بلد يفرض غرامات على المخالفين للتعليمات، وآخر يعيش كالسابق..

أصبح الفرد، بتأثير التهويل الإعلامي المبالغ فيه أحياناً من مخاطر كورونا، ينفذ ما يطلب منه دون نقاش أو تفكير أو حتى طرح سؤال.. أخبار الإصابة والموت بكورونا تتصدر مختلف وسائل الإعلام على مدار الساعة.. صارت المصافحة مذمومة.. أما العناق فهو يعادل ارتكاب جريمة.. في المخازن والأسواق يضعون إشارات التباعد.. والويل لمن يخرقها، لأنه سيكون عرضة لنظرات الاستنكار، إن لم يتلقَّ درساً.

قالت سيدة سويدية في إحدى المقابلات الإذاعية.. صرت أشتاق لزحمة الوقوف على الطابور في الأسواق والمحلات.. أشتاق لزحمة الطرقات ووسائل النقل العام.. أشتاق لحضور حفل عيد ميلاد أو السفر داخل السويد أو خارجه.. أصبحنا (سجناء) بشكل ما!

غدا التعبير عن الحزن أو الفرح مقونناً، معلباً ومحدداً بقوالب.. وماذا عن مشاعرنا الانسانية؟

ننام ونستيقظ على أخبار كورونا. نسينا أخبار الأمراض الاخرى، أخبار الفقر والحروب.. أخبار النهب والفساد العالمي أو المحلي.. أخبار جرائم القتل وترويج المخدرات أو الدعارة.. أخشى أن ننسى قريباً حتى أسماءنا وتاريخ ميلادنا أو أسماء أقاربنا والاصدقاء!

تغييرات واسعة تحدُث بقصد أو دون قصد، ولا أحد لديه جواب ناجز. ونحن.. هل نبقى شهود زور؟

العدد 1104 - 24/4/2024