قانونٌ شرعيٌّ ذكوريٌّ مجرمٌ يبيح للأب ما لا يبيحه للأم

إيناس ونوس:

منذ مدَّةٍ وجدت نفسي شاردة الذِّهن في استفسارٍ لم أجد له تفسيراً: (كيف يستطيع الإنسان امتلاك هذا الكم من التَّناقض في مشاعره؟؟ حينما يحب يفعل المستحيل من أجل تغذية هذا الحبِّ والسَّعي لحصد ثماره، وحينما تختفي تلك المشاعر لسببٍ أو لآخر نجده قد انقلب مئةً وثمانين درجةً مستخدماً شتَّى الوسائل لإيذاء الآخر)!

هذا الآخر الذي يكون ربَّما صديقاً، وربَّما أمَّاً أو أباً، زوجةً أو زوجاً، وقد يكون أبناء.. إنَّما ما أريد التَّطرق إليه اليوم هو العلاقة بين الأزواج، التي قد تقوم بعد حبٍّ دام على مدى سنوات، تكلَّل بالعشرة والألفة، وفجأةً ينقلب أحد الطَّرفين ليصبح أشدَّ عداوةً من الآخرين، متغافلاً عن العمر والسَّنوات التي قضياها معاً، متناسياً مشاعرَ كان بالأمس القريب يحملها ويتبجَّح بها، ويبدأ بالتَّفنُّن في البحث عن أية وسيلةٍ من شأنها إلحاق الأذى بالشَّريك، لاسيما إن كان لديهما أطفالٌ، فيصبحون الورقة الرَّابحة، وغالباً بيد الأب، بحكم القوانين التي تخضع لها مجتمعاتنا والقائمة أصلاً على (الشرع) الذي من المفترض به أن يكون أكثر رحمةً وعطفاً، غير أنَّه على العكس تماماً، جاء محابياً للرَّجل/ الأب في كثيرٍ من مواده وتشريعاته، متغافلاً ــــــ وأظنه عن سابق إصرارٍ وتعمُّدٍ ـــــــ عن حقِّ الأم في أبنائها، عن حقِّها في شعورها بأمومتها على المستوى الشَّخصي، عن حقِّ الأطفال في اختيار الحضن الدَّافئ لهم والأكثر مقدرةً على احتضانهم، وكلُّ ذلك في سبيل ماذا؟

في سبيل إشباع ذكورية الرَّجل باعتباره من يعطي النَّسب في نهاية المطاف، وباعتباره من سيورِّث فيما بعد موته، وكأنَّ المشرِّع نسي أن النَّسب الأساس هو للأم التي حملت ولدها في رحمها شهوراً، في حالةٍ واضحةٍ وضوح الشَّمس أمام أعين الجميع ولا يمكن إنكارها، ويأتي المثل الشَّعبي: (قد يكون لك ألف أبٍ، لكن ليس لك إلّا أمّ واحدة) مؤكداً كل هذا، غير أن القوانين التي نخضع لها تكرِّس السُّلطة الذُّكورية التي غالباً ما تقوم بالتَّخلي عن أبنائها بأعذار واهيةٍ جميعنا ندركها ونعايشها يومياً، تأتي لتحرم أماً من أبنائها فقط لأنَّ الأب رغب بالانتقام منها بأخذهم منها دون أن يتنازل حتى ويخبرها بما سيقوم به، وتعطيه كامل الأحقِّية في الانتقال بهم بين البلدان، بينما تمنع الأم في حال احتضانها لأولادها من التَّنقُّل بهم إلاّ بموافقةٍ خطِّيةٍ من الأب الذي ربما يكون قد نسي أنَّ لديه أطفالاً أساساً، وكلُّ هذا تكريسٌ لتبعية المرأة للرَّجل، هذه المرأة التي باتت اليوم في مواقع لم يصل إليها الرجل غالباً، بل وتفوَّقت عليه لاسيما في ظلّ الحرب الكارثية التي عشناها في بلادنا، بأن قامت ولا تزال تقوم بأعمال لم تكن ذات يومٍ تفكِّر بها لمجرَّد التَّفكير، فقط لأنها وجدت نفسها مجبرةً على إعالة أسرتها بغياب الزَّوج/ الأب لعدَّة أسبابٍ لسنا بصدد ذكرها هنا، ومن بينها الطَّلاق، الذي سيجعلها تخضع لمعاملات وقضايا الحضانة وما يتبعها من مشاكل ستعاني منها هي وأطفالها على حدٍّ سواء، إمَّا على الصَّعيد النَّفسي، أو على الصَّعيد المادِّي، أو على الصَّعيد الاجتماعي والتَّربوي و… إلخ.

لا يزال هذا القانون الذي يحرم الأم بكلّ بساطةٍ من أطفالها، والذي يسمح للرَّجل بالتَّنقُّل بهم كيفما شاء ومهما كانت أعمارهم، معمولاً به في العديد من الدُّول العربية حتى وقتنا الرَّاهن (عصر التُّكنولوجيا والتَّقدُّم)، غير أن تعديلاً طرأ عليه في سورية تحديداً في عام 2019، بأن سمح المشرِّع السُّوري للأم الحاضنة لأولادها بالتَّنقُّل بهم دون إذنٍ خطيٍّ من الأب، وقد جاء هذا التَّعديل نتاج عملٍ مضنٍ وجهودٍ حثيثةٍ من قبل مؤسَّسات المجتمع المدني في الفترة التي سبقت الحرب، وبناءً على الضَّرورة التي فرضتها الحرب على المجتمع السُّوري في الآونة الأخيرة، وكنَّا جميعنا قد رحَّبنا بهذا التَّعديل على أمل أن يطال التَّعديل العديد من مواد قانون الأحوال الشَّخصية المتعلِّقة بهذا الأمر وغيره، إذ لا توجد شريعةٌ في الكون كلِّه تبيح حرمان أمٌّ من التَّنقِّل بأطفالها، لأنَّه من غير المنطقي أن يوجد من يخاف على الأولاد ويسعى لتوفير الأمان والمستقبل لهم أكثر من أمِّهم، في وقتٍ بتنا نرى فيه تخلِّي أقرب المقرَّبين ـــــ وتحديداً من الذُّكور ــــ عن الأولاد وعدم الاعتراف بهم!!

فأين الشَّرع والمشرِّعون من كلِّ هذا؟ وأين تكمن العدالة الاجتماعية والرَّحمة والإنسانية التي تحضُّنا عليها جميع الدِّيانات المعمول بها حينما تستيقظ أمٌّ لتجد نفسها قد فقدت من هم أغلى من روحها، فقط لأن القانون يبيح للرَّجل ما لا يبيحه للمرأة، وأين كلُّ مواثيق ومعاهدات الكون كلِّها أمام دمعة طفلٍ حُرم من حضن أمِّه ليستخدم وسيلةً لإذلالها والسَّيطرة عليها؟؟

العدد 1104 - 24/4/2024