عملٌ.. لا مفرَّ منه

إيناس ونوس:

وأخيراً.. جلست مع نفسي بعد يوم عملٍ شاقٍّ ومضنٍ، كما بقية أيام الأسبوع التي اعتدت أن أمضيها في السَّنوات الأخيرة، فمنذ الصَّباح الباكر أخرج برفقة أولادي إلى المدارس، ثم أذهب إلى عملي، وأعود برفقتهم فأطعمهم وأتابع دروسهم، حتى يحين موعد مجيء بعض الطُّلاب إلى البيت لأقوم بتدريسهم، أو يكون قد حان وقت ذهابي إلى بيوت طلابٍ آخرين، وبعد انتهائي من كلِّ هذا، أعود لأحضِّر أبنائي للنَّوم استعداداً لغدٍ يشبه اليوم والأمس، ثم أجلس لأحضِّر ما عليَّ القيام به في الغد من تدريسٍ وأعمال منزلية …إلخ. وبين هذا وذاك عليّ أن أتقبّل كلّ ما أتلقّاه من أهالي الطُّلّاب مختلفي الطِّباع والأنواع، ففي الوقت الذي عليَّ أن أركض فيه لاهثةً سعياً لتأمين أبسط مقومات الحياة لفلذات كبدي، عليَّ أن أتقبَّل أيضاً، بروحٍ رياضيةٍ، كلّ القهر الذي يمكن للمرء أن يتخيَّله من آباء وأمهاتٍ يظنُّون أنَّهم مقابل أموالهم التي يدفعونها، مهما كانت، بإمكانهم أن (يشتروا الآخرين) الذين هم بأمسِّ الحاجة لهذه الأموال، إضافةً إلى طباع الطُّلّاب المختلفة بين مؤدَّبٍ محترم، وآخر عديم التَّربية، بين من يرغب بالدِّراسة والتَّفوق، ومن لا يهمُّه الأمر لا من قريبٍ ولا من بعيد، فضلاً عن مسلكياتٍ أخرى يخجل اللِّسان من البوح بها.

كلّ هذه السَّنوات من العمل المضني في إعطاء الدُّروس الخصوصية، وبعد كلِّ ما حدث معي ولا يزال، دفعتني إلى أن أتَّخذ القرار مراراً بأني لن أعود لهذا العمل مهما كان الوضع المعيشي اليومي الذي نعيشه، لكنَّ الظُّروف تقف دوماً بالمرصاد، فتجبرني على التراجع عن قراري، لا سيما أنِّي لا أتقن عملاً آخر غيره يساعدني على تأمين بعض متطلَّبات المنزل، في ظلِّ الغلاء الفاحش المستشري هذه الأيام، فأراني مجبرةً مجدَّداً على قبول ما لم تعد لي طاقةٌ على قبوله وتحمُّله، من أجل الحصول على بعض فتاتٍ يظنُّ الآخرون أنَّه سينقلني إلى حياةٍ مختلفةٍ بكلِّ المقاييس، فغالبية من حولي يتساءلون عمَّا إذا كان ما أتقاضاه يكفي أم لا، والبعض منهم يشكِّك صراحةً وعلانيةً بأنِّي لا أقول الحقيقة، وأنِّي لا أفشي سراً خشية أن يصيبوني بالحسد، وهم غير مدركين حجمَ التَّعب النَّفسي والجسدي الذي أعاني منه بسبب عملي هذا، وبأنِّي صرت أتمنى أن يأتي يومٌ واحدٌ من أيام الأسبوع دون أن يكون لديَّ أي التزام، دون أن أترك أطفالي في البيت وحدهم، قلقةً عليهم من غيابي وخائفةً عليهم من عدم ذهابي، وعدم قدرتي، إن لم أذهب، على تأمين مستلزماتهم، وما إن فكَّرت أن أرفع سعر الجلسة قليلاً بما يتناسب مع الحال العام، حتى بادرني بعض الأهل بالشَّكوى من عدم قدرتهم على دفع المزيد، لاسيما أنَّهم مثلي ممَّن يسعون وراء لقمة العيش المغمَّسة بالذُّلِّ اللَّحظي، لكنَّهم يريدون لأبنائهم أن يخرجوا بدراستهم من بوتقة هذه الحياة القاسية، فإمَّا أن أقبل وإمَّا أن أرفض، وبحكم الوضع لا أستطيع إلاّ القبول بالمثل القائل (ساقية جارية ولا نهر مقطوع)، أو برفض البعض الآخر لي ولقدراتي لمجرَّد وجود آخرين غيري من زملائي ممَّن يقبلون بأسعارٍ أرخص ممَّا أطلبه حتى لو لمسوا فرقاً في تطوُّر مستوى أبنائهم إن أجروا مقارنةً بيني وبين غيري، وهؤلاء الأهل كُثُر حقيقةً، لأنَّهم ممَّن لا يهمُّهم المستوى التَّعليمي بتاتاً بل يتعاملون مع الموضوع على أنه (بريستيج اجتماعي) ليس غير، بالرَّغم من ملاحظتهم لتدنِّي مستوى التَّعليم في البلاد عامةً، نتيجة القرارات الصَّادرة عن وزارة التَّربية التي لم تعد تهتم حقيقةً بالعملية التَّعليمية ومستوى التَّحصيل، ولا بمستقبل هذه الأجيال التي ستبني الوطن مستقبلاً، فكلُّ ما يهم هو إصدار القرارات بغضِّ النَّظر عن مقاربتها للواقع، وعقد صفقاتٍ لتغيير المناهج التي لا تتناسب والواقع المدرسي اليوم الذي يعاني أصلاً من خسارةٍ كبيرةٍ للكوادر المختصَّة الفعَّالة، ومن أمورٍ عديدةٍ أخرى تساهم بدورها في إفشال العملية التَّعليمية.

كثيراً ما بحثت واستفسرت وتناقشت مع الآخرين عن حلِّ هذه المعضلة التي نحيا ضمنها، لكني لم أجد حلاًّ مجدياً، فلا أنا ولا زملائي نملك المقدرة على الاستغناء عن إعطاء الدُّروس الخصوصية (تحديداً من النَّاحية المادية)، وفي الوقت ذاته ليس بمقدورنا تغيير الحال ودفع الوزارة والجهات المعنية للتَّفكير ولو جزئياً بمدى فداحة ما يحدث اليوم وخطورة الواقع التَّعليمي.

استسلمت في نهاية المطاف، وقلت لنفسي: دعكِ من كلِّ هذا التَّفكير الذي يضيِّع منك الوقت، ولتتابعي في الغد بكلِّ ما أوتيتِ من قوَّة، فليس في اليد حيلة!

العدد 1104 - 24/4/2024