عنف الحروب اغتال براءتهم

إيمان أحمد ونوس:

لمّا كان العنف سمة أساسية وحالة عامة للحروب والنزاعات المُسلّحة، فلا شكّ أن هذا العنف سينتقل تلقائياً وتدريجياً للمجتمع بكل أفراده وشرائحه، وخاصّة إذا استمرّت تلك الحرب لسنوات طويلة. وممّا لا شكّ فيه أيضاً أن الأطفال- الحلقة الأضعف من شرائح المجتمع- هم الأكثر تضرّراً وتأثّراً بتبعات تلك الحروب وآثارها على المديين القريب والبعيد، وهذا ما نلاحظه اليوم لدى أطفال سورية التي ما زالت تعيش الحرب منذ أكثر من عشر سنوات، وما نتج عنها من حروب أخرى أشدُّ فظاعة تتمثّل بانعدام الأمن والأمان في كثير من المناطق، لاسيما البعيدة والمُهمّشة والمتمثّل بالانفلات الأمني الحاصل في تلك المناطق من سطو مسلح أو خطف واغتصاب وحتى قتل ممّا تتناقل وسائل الإعلام أخباره بين الفينة والأخرى، إضافة إلى النزوح والتهجير واللجوء الذي تعرّضت له غالبية الأُسر السورية، بما خلّفه من آثار نفسية واجتماعية خطيرة على البالغين، فما بالنا بالأطفال الذين لا يمتلكون خاصيّة التقبّل ولا الاندماج التي ربما يمتلكها أو يتقبّلها الكبار، لاسيما تجاه أقرانهم من أبناء المناطق التي لجؤوا إليها أو حتى في مراكز الإيواء التي وُضِعوا فيها. يُضاف إلى ذلك استمرار مظاهر الحرب الأخرى كبقاء الحواجز الأمنية والعسكرية بما يفرضه بعضها من مسلكيات عنفية في بعض الأحيان خلال عمليات التفييش والتفتيش التي يتعرّض لها ركّاب وسائط النقل العامّة والخاصّة.

لقد فرض هذا الواقع بمجمله على الأطفال حالة من العنف الداخلي الذي يتجلّى بنوبات من العصبية والصُراخ والبكاء غير المُبرّر أحياناً لدى الأطفال في المراحل العمرية الأولى، بينما يتجلى لدى الشرائح الأكبر بافتعال الشجارات الدائمة سواء مع الكبار أو مع إخوتهم أو أقرانهم في البيت أو الحي أو المدرسة، واستخدام لغة التهديد الدائم عبر ألفاظ نابية وعُنفية، أو حتى خلال اختيارهم لألعابهم أو أنماط اللعب فيها(عسكر وحرامية، إنشاء حواجز وهمية… الخ) وهذا ما يُمكننا وصفه بالعنف الظاهر، أمّا العنف المُستتر فنراه يشمل مواهبهم المُتمثّلة بالرسم أو التمثيل أو كتابة موضوعات التعبير، وهذا ما نلاحظه في رسومات بعضهم عن بيتهم أو مدرستهم أو حديقة حيّهم التي دمّرتها الحرب، أو ذكرياتهم القريبة عن رفاقهم أو أهلهم وذويهم الذين اغتالتهم شظية أو قذيفة خلال المعارك في مناطقهم التي نزحوا عنها أو التي أووا إليها لاحقاً.

ولا يفوتنا أن الوضع المعيشي القاسي والمرير المفروض على عموم السوريين منذ ما قبل الحرب حتى اليوم قد ترك آثاره المادية والنفسية والاجتماعية الرهيبة على الصغار قبل الكبار، حتى بات منذ سنوات عدّة مشهد الأطفال المتسوّلين أو الذين يعملون في مهنٍ لا تناسب أعمارهم ولا بنيتهم النفسية والجسدية مشهداً اعتيادياً لم يعد يُثير ولا يسترعي الانتباه، ولا حتى للمعنيين بأمر الطفولة وحقوقها المسلوبة والمهدورة على أعتاب الفقر والجوع والبطالة التي فرضت على الآباء تشغيل أطفالهم كي يكونوا عوناً لهم في تلبية الاحتياجات الأساسية للأسرة، بما ترتّب على ذلك من تسرّب مدرسي وصلت نسبته إلى مستويات تُنذر ولا شك بتفشي الأميّة مُجدّداً في سورية، بعد أن تخلّصت منها غالبية المناطق قبل الحرب.

بالتأكيد، نعلم جميعاً أن لهذا الواقع نتائج وخيمة وكارثية على الأطفال، بما يُفرض عليهم من عمالة لا يكسبون منها المال الكافي لإعالة الأسرة بقدر ما يكسبونه من أمراض جسدية ونفسية وسلوكيات سلبية تدفعهم لتبني العنف وسيلة وحيدة للدفاع عن أنفسهم في مواجهة الواقع والآخرين الذين يعتبرهم أولئك الأطفال خصوماً دائمين سواء في العمل أو على نوافذ الأفران والمجمّعات الاستهلاكية وغيرها من أماكن مُخصّصة لتأمين الاحتياجات اليومية لأسرهم بوجود الأبوين أو غيابهما، إذ غالباً ما نرى بعض الأطفال يرافقون أمهاتهم أو آبائهم إلى تلك الأماكن كي يستفيدوا من الوقت والكميات المسموحة أو التي يمكنهم الحصول عليها لبيعها لآخرين بأسعار مُضاعفة كالخبز، وبالتالي يشهدون ويعيشون حالات العراك والمشاجرات التي غالباً ما تحصل في تلك الأماكن، وهذا بالتأكيد يُدعّم العنف السائد غالباً في حياة أولئك الأطفال الذين لم نعد نشعر مُطلقاً ببراءتهم المعهودة، بل بتنا أمام كبار في أجساد صغيرة أرهقتها الهموم والقهر والفقر، فكبرت قبل أوانها بشكل مشوّه لا يتوافق مع الطفولة والطبيعة.. وبعد كل هذا يمتعض البعض وبضمنهم الأهل من أطفال اليوم، ويصفونهم بالجيل المتمرّد الخالي من الحياء والاحترام!!!

ألاّ تعلمون يا سادة أنكم والحرب والفقر والبطالة من حرمهم طفولتهم واغتال براءتهم حتى أصبحوا خالي الوفاض إلاّ من قهرهم وعنفهم؟؟

العدد 1104 - 24/4/2024