ربّ ضارّة نافعة!

وعد حسون نصر:

كثيرون اعتبروا جائحة كورونا نذير شؤم وإحباط وسبب شقاء وهلاك للمجتمع. ربما يكون الأمر هكذا من بعض النواحي، لكن إذا نظرنا إلى الإيجابيات نلاحظ أنها كثيرة، صحيح أن المرض فرض علينا الحجر المنزلي وتعطّلت أعمال كثيرة وساد نوع من الكساد والشحّ وفقدان الكثير من المقوّمات التي تحتاجها الأسرة لاستمرار حياتها، لكن من ناحية أخرى عادت العائلة لتجتمع في موعد مُحدّد تحت سقف المنزل، عادت طاولة الطعام تجمع الجميع دون تأخّر، عادت اللقمة تُقسم على الكبير والصغير، أحاديث مشتركة، ضحكات، قهقهات، ذكريات قديمة، أيام طفولة تُستذكر مع ضحكة وتمنيات لو تعود. همسات، سهرات، تحضير أكلات مُحبّبة بالتعاون بين الجميع. وبالنسبة للآباء كانت فرصة للجلوس مع الأبناء والتعرّف على مشكلاتهم، وهواياتهم، ما يحبون وما يكرهون بعلاقة مباشرة لا تحتاج إلى تدخّل من الأم لترتيب لقاء مع الأب. الزوج بدأ يدرك أكثر مقدار الضغوط التي تعانيها الزوجة، وسبب التوتّر الناجم عن عمل المنزل الذي كان يظنه كثير من الأزواج عملاً بسيطاً تقوم به الزوجة، إضافة إلى معاناة تدريس الأبناء وتحضير الطعام والتربية، هذا الأمر اكتشفه الكثير من الأزواج خلال فترة الحجر المنزلي، والزوجة باتت تُحسّ معاناة الزوج، وخاصة الزوجة غير الموظفة حيث بدأت تشعر بصعوبة تأمين المصروف وكم كان الزوج يتحمّل عناء عمل إضافي لتأمين حاجات أفراد الأسرة، كما أن أيّ تقصير كان يصدر من الزوج يعتبر إدانة بحقه.

هنا تساوت الأدوار وتبيّن للجميع نقاط الخلل. لا يمكن التعميم على كل الأُسر، لكن نسبة كبيرة من الأُسر أعادت النظر بطريقة حياتها واكتشفت نقاط الخلل ضمن منظومتها الاجتماعية، لقد عانى كثيرون من التوتّر والضغط، لكن كانت فرصة ليتعرّف الجميع أكثر بعضهم على البعض الآخر وعلى أنفسهم قبل الآخرين، ساد التعاون وتقاسم اللقمة والمساعدات التي ربما كانت بسيطة، لكن كان للجميع بصمة إيجابية في حياة الآخرين ولو من خلال ربطة الخبز. كذلك ظهر الاحترام للكبير والخوف عليه من المرض، كثيرون توجه اهتمامهم للمُسنّ داخل العائلة وبدأ يهتم بطعامه وصحته خشية أن يخطفه المرض منهم فيحرمهم من صدى صوته، كذلك متعة القراءة التي فقدها كثيرون منّا عادت إلينا بشغف وحب، وبدأنا نشعر بلذّة ممارستها وإن كانت من أبسط الأشياء لدينا، فمتعة مشروب دافئ والاسترخاء على الأريكة كم كنا نحتاج إليها أحياناً، لإعادة شحن طاقتنا والوصول إلى التوازن الداخلي. كذلك تقبّل وجهة نظر الآخرين وخاصةً عبر وسائل التواصل الاجتماعي علماً أن أغلبنا كان يرفض الآخر، لكن خلال هذه الفترة من جلوسنا في المنزل أصبحنا أكثر اهتماماً بمساعدة الآخرين ونشر سبل الوقاية والتوعية بين متابعيهم، نتقبّل الجميع لأن هدفنا واحد، التخلّص من فكرة وجود المرض. أيضاً مشاركة الجيران والاستماع لبعض الأمور المشتركة، إدراك حاجة الجميع للحياة الاجتماعية وبساطة العيش، أصبحت الأغلبية في حالة سواسية، فمن كان عازفاً عن القيام بأعماله المنزلية بمفرده ويستدعي مستخدماً يساعده في المنزل تخلى عن كبريائه، وبدأ يوضّب منزله وأغراضه الشخصية بمفرده تحت ضرورة التخلي عن فكرة وجود أشخاص أغراب من غير الأسرة في المنزل، بسبب الوباء. ربما هي فرصة للإحساس بتعب الآخرين، الطبيعة والهواء النقي والهدوء وأصوات العصافير كلها عادت تظهر من جديد بعد فقدانها لزمن طويل، إذ بدأنا نشم رائحة الصباح الخالي من الدخان والغبار، ونستمع بهدوء لأصوات الطيور مع قهوة الصباح وقيلولة المساء، حتى الطقس بدأ يستعيد نشاطه وتعافيه ولا يتغلّب شهر على الآخر بالحرارة أو البرودة، لذلك وكما لجائحة كورونا سلبيات، بالمقابل هناك إيجابيات ظهرت لنا خلال فترة الحجر، وخاصةً على الأسرة التي عادت لصياغة نفسها وترتيب أوراقها القديمة، وتنظر للهفوات والأخطاء وتسترد حبها الذي ضاع في سراديب الحياة خلف لقمة العيش.

لعلّ الكثير شرب من الكأس نفسها وعرف معاناة غيره وأحسَّ بشقاء من حوله فخفَّ اللوم ليحلَّ محله الرحمة، فمثلي بالشقاء مثل أخي لذلك لا لوم إن سرقتنا الحياة أحياناً بسبب ضغوطها، جميعنا عرف ما له وما عليه وإن بقيت هناك نسبة قليلة لم يصلها الإحساس، لكن كثيرين عرفوا طعم الحب، لأنهم شربوا من الكأس نفسها، وهنا يُمكننا القول إن كورونا أعاد رونق الحياة الاجتماعية وشكّل الأسرة من جديد.

العدد 1104 - 24/4/2024