هل أعاد (كورونا) للأسرة مفهومها؟

إيمان أحمد ونوس:

منذ منتصف القرن الماضي، تعرّضت الأسرة بمفهومها التقليدي الذي كان سائداً لقرون، لمتغيّرات مختلفة بدأت بولوج المرأة مجالات العلم والعمل، وهذا أدّى إلى انتشار مفاهيم المساواة بين الجنسين التي طرحها ناشطات/ ـون ومنظمات نسوية تبنّت في أجنداتها قضايا المرأة وحقوقها الضائعة ما بين القيم الدينية والاجتماعية المُعزّزة لاحقاً من السلطات السياسية والتشريعية، التي ورغم التطوّر الحاصل على وضع المرأة أبقت على العديد من القوانين التمييزية ضدّها، مثلما غضّت الطرف عن التغيير الحاصل على الأسرة بحكم عمل المرأة وتغيير العديد من المفاهيم لدى أفرادها.

لا شكّ أن خروج المرأة للعمل قد ترك أثراً كبيراً على دورها في حياة الأبناء، في الوقت الذي ضاعف فيه من أعبائها ومسؤولياتها الأسرية، فقد بقي الرجل مُحتفظاً بدوره التقليدي تشبّثاً بذهنية مجتمعية ترى أن الأعمال المنزلية هي فقط من اختصاص المرأة بما فيها تربية الأبناء واقتصر دوره فيها على فرض الأوامر لا أكثر. لم يقتصر الأمر على هذا الحدّ، بل تعداه إلى الخلل الذي أصاب أدوار كلا الأبوين سواء في هيكلية الأسرة أو في العلاقة مع الأبناء وتربيتهما، إذ أرخى الوضع الاقتصادي والمعيشي الصعب منذ عقود بظلاله القاتمة على الجميع اقتصادياً واجتماعياً وحتى تربوياً، إذ اضطرّ الأب للاشتغال بأكثر من عمل كي يُلبي احتياجات أسرته المتنامية في ظلّ المتغيّرات الجديدة الطارئة على الاحتياجات ذاتها والتي اختلفت بشكل كبير عمّا كان سائداً، كما أن رغبة المرأة/ الأم بالعمل من أجل إثبات ذاتها من جهة، وكي تساهم في مصاريف الأسرة لمساعدة الأب من جهة ثانية، استدعى إشراك جهات أخرى في تربية الأطفال كالأهل أو دور الحضانة ورياض الأطفال وغيرهم، إضافة إلى الأثر الذي تركه غياب الأبوين لوقت ليس بالقليل على الأبناء، ما جعل تأثيرهما خافتاً أمام تأثيرات الخارج المُشاركة في التربية والاحتضان.

كما أن الأبناء أنفسهم قد تبنّوا آراء ومواقف جديدة لم تكن معهودة في زمن سابق حيال الأسرة والأبوين بتأثير واضح من مفاهيم العولمة، التي بجانبها السلبي قد عزّزت الفردية وأسّست للاستلاب والانجرار وراء مظاهر فارغة من أيّ إحساس بالمسؤولية المادية والاجتماعية والأسرية من خلال ما يُطرح من تقنيات تكنولوجية أصبحت مع مرور الوقت احتياجات أساسية لا يمكن لأيّ فرد الاستغناء عنها أو عن مواكبتها في كل جديد تطرحه، إضافة إلى مواكبة الموضة المتغيّرة ما بين يوم وآخر على مختلف المستويات والاتجاهات دون النظر لأوضاع الأسرة المادية وإمكاناتها مهما كانت ضعيفة أو لا يمكنها مجاراة هذا الواقع. لكن علينا ألاّ ننسى الدور الكبير للأبوين بتعزيز هذه المفاهيم في حياة الأبناء من خلال تبني مقولة أنهما لا يريدان لأبنائهما أن يكونوا أقلَّ شأناً من أقرانهم، ولا يريدان لهم أن يعيشوا الحاجة والعوز اللذين عاشاه حين كانا بأعمارهم مُتناسين أو مُتغافلين عن الواقع الاقتصادي المتردي يوماً بعد آخر، والذي أرخى بظلاله الثقيلة على الأسرة ككل، ما دفع الأبوين معاً للاشتغال بأكثر من عمل والبحث عن مصادر مالية أخرى لتغطية الاحتياجات، وهذا أدى لحالة من الفراق المعنوي داخل جدران البيت الذي صار مع مرور الوقت أشبه بفندق لا يجتمع فيه أفراده إلاّ للنوم وقضاء حاجات أخرى، ما أسّس لغياب روح الأسرة والمودة عند الجميع (وضمناً الأبوان) فكل فرد فيها يعيش حياته بعيداً عن الآخر الذي لا يعرف عنه شيئاً أكثر من أنه ينتمي بيولوجياً لهذه الأسرة التي لا تُشكّل بالنسبة للبعض منهم أكثر من مموّل لاحتياجاته فقط لا غير. حتى في ظلّ الحرب التي دامت لأكثر من تسع سنوات والتي خلخلت بنية المجتمع بأكمله من حيث تبعاتها المؤلمة والمعروفة للجميع، إلاّ أنها لم تعمل على التئام الأسرة بقدر ما عملت على تشتيتها بحكم هجرة البعض، أو التحاقهم بالتجنيد، والأهم السعي الحثيث من قبل الأبوين أو أحدهما لتأمين المستلزمات التي بات تأمينها في ظلّ الغلاء الفاحش معركة بحدِّ ذاتها تتطلّب غياباً متواصلاً وابتعاداً روحياً دائماً عن باقي الموجودين حتى ساد في بعض الأُسر عنفٌ لا مثيل له، وفي أفضل الأحوال غابت روح الألفة المودة بشكل شبه نهائي عن أجواء الأسرة وأفرادها، إلى أن حلَّ فجأة وبلا مُقدّمات زلزال أرغم العالم بأسره على الوقوف تائهاً لبعض الوقت عن كيفية التعامل معه، إنه ( كورونا) الذي رغم الصدمة المفاجئة التي أحدثها للأفراد والمجتمعات، لكنه في الوقت ذاته دفع الجميع باتجاه المواجهة والتحدّي، وفرض إجراءات وقائية تطلّبت في مقدمتها حجراً منزلياً فرض على الجميع التعايش مع بعضهم من جديد، لكن برؤىً مُغايرة لما كان سائداً حتى قدومه، وهذا ما دفع بالأسرة لاكتشاف ذاتها مُجدّداً وإعادة حساباتها من حيث العلاقة المفروضة بحكم الحجر على أفرادها. وهنا بدأت العودة لجذور العائلة سواء من حيث إحياء العلاقة والأدوار ما بين الأبوين من جهة، وما بينهما وبين الأبناء من جهة أخرى. فعلى صعيد العلاقة والأدوار المعهودة بين الزوجين طرأ عليها ما يُشبه الزلزال من حيث إعادة النظر بدور كلٍّ منهما تجاه الآخر ورؤيته له، فلم يجد الزوج غضاضة في القيام بمهام كان يرفضها سابقاً لأنها من اختصاص الزوجة برأيه، أو لم يسمح له الوقت لتأديتها بسبب انشغاله الدائم لتأمين متطلبات الأسرة. بالمقابل، وجدت الزوجة نفسها أمام شخص لم تكن ترى فيه غير مموّل للبيت، فأحيت معه اليوم ذكريات جميلة ومشاعر دافئة أعادت لهما ولأبنائهما الحيوية من جديد، فقد عملا على التقرّب أكثر من الأبناء في محاولة لإعادة اكتشافهم من خلال ما يطرحون اليوم من رؤىً وأفكار لم يتعرّف إليها الأبوان من قبل.

نعم، لقد عادت الألفة بأجنحتها المُرفرفة في أجواء البيت الذي أصبح الملاذ الوحيد للجميع، وسادت في بعض الأُسر روح التعاون والمودة والمساهمة الفعلية في تأمين الاحتياجات وبإحساس عالٍ بالمسؤولية، إضافة إلى الحميمية التي خيّمت على الجلسات بعد أن كانت غائبة لزمن طويل.

لكن بالمقابل، هناك أُسر تعيش أساساً مشاكل مختلفة وتشهد عنفاً متقطّعاً بين الحين والآخر لأسباب مختلفة أهمها الوضع الاقتصادي الصعب، واليوم عمل هذا الحجر على زيادة جرعة العنف بسبب البقاء الدائم للجميع في فضاء يفتقد لأدنى مقوّمات الحياة والعلاقة الطبيعية بين أفراد الأسرة، ذلك أن البنية النفسية الهشّة المُستندة إلى ذهنية متخلّفة لدى بعض الآباء والأزواج لا يمكنها أن تصمد في وجه تحديّات كبرى كالحرب أو الأوبئة أو أيّة كوارث أخرى، ما يدفعها إلى السادية والعنف بدل المودة والرحمة التي تتطلبها الحياة المشتركة مع باقي أفراد الأسرة.

فهل يُمكننا القول إن ظهور (كورونا) قد عمل على إعادة صياغة مفهوم العائلة من حيث أدوار كلٍّ من الزوجين وعلاقتهما أحدهما بالآخر، أو من حيث علاقة الآباء بالأبناء والفهم الحقيقي لمعنى الأبوّة من جهة الآباء، والبنوّة من جهة الأبناء ودورهم في حياة الأسرة ومتطلباتها بشكل عام؟

العدد 1104 - 24/4/2024