حبسٌ قسريٌّ لكنّه ضروري

إيناس ونوس:

قالت صديقةٌ لي: لم يكن قلقي من فكرة الحجر المفروض صحيحاً، فبالرَّغم من اعتيادي على غياب زوجي الدَّائم عن البيت بحكم عمله، إذ لا نراه إلّا ساعةً أو اثنتين في آخر اليوم، ومع أن أبنائي منشغلون بأعمالهم ودراستهم وأمورهم الخاصَّة التي لا تسمح لي برؤيتهم إلاّ فيما ندر، غير أن هذا الحجر جاء في الوقت المناسب، ذلك أننا تمكَّنّا من التّقرّب أكثر بعضنا من البعض الآخر، وتبادُل الحديث فيما بيننا أكثر من ذي قبل وفهم كلٍّ منا للآخر، اكتشفت أن أبنائي قد كبروا وقد تبلورت شخصياتهم، وأن زوجي رجلٌ حنونٌ لطيفٌ، لديه القدرة على أن يروي النكتة ويُضفي على الجو مزيداً من البهجة، وأن يساعدني بأعمال المنزل، في الوقت الذي يحترم خصوصيتي وخصوصية أبنائنا.

لم يكن لدينا متَّسعٌ من الوقت فيما سبق لاكتشاف هذه التفاصيل الصَّغيرة/ الكبيرة، فكلٌّ منَّا في عمله، بينما الآن وبعد مرور شهرين تقريباً على مكوثنا معاً على مدار السَّاعة، فرحت بأني أعيش مع عائلتي الرَّائعة. تمكَّنت من التقرُّب من أفراد عائلتي كلّ على حدة، وتمكَّنوا من فهمي ومعرفة كمِّ الهموم المُلقى على عاتقي في ظلِّ غيابهم السَّابق، واستطعت أن أكسب بعض الوقت لأعيد التَّفكير في نمطية الحياة التي كنا نعيشها، وامتلكت الوقت فاسترجعتُ بعضاً من هواياتي واهتماماتي… كم كنّا بحاجة إلى هذه التجربة حقيقةً!

ويقول صديق: ظننت أن العطلة في المنزل ستمنحني بعض الرَّاحة التي نشدتها لزمنٍ طويل، ورحَّبت بالفكرة في بدايتها، غير أن الأمور لم تكن كما ظننت، فبعد مضي أيامٍ قليلة بدأت أشعر بالملل، والضَّجر من وجود أفراد العائلة جميعاً في كل الأوقات معاً، وتحوَّل هذا الملل إلى روتين، يحمل بداخله بوادر توتُّرٍ من نوعٍ مختلف، فصار كلٌّ منَّا يترقَّب الآخر لينتقده على كلمةٍ قالها أو على تصرُّفٍ قام به، فينشب العراك فجأةً وتتفتَّق المشاكل والخصام. كنا قد اعتدنا جميعنا على العيش في بيتٍ واحد، لكن كان لكلِّ فردٍ عالمه الخاص البعيد كلياً عمَّن يجلسون بجانبه مباشرة، فكَّرتُ بضرورة تغيير ما نحن عليه، وإلاّ فإننا سنعاني المزيد، وستصبح الحياة أكثر بشاعةً، وتناقشت معهم في ذلك، حاولت أن أستمع لآرائهم بقدر ما رغبت أن يستمعوا لي، اكتشفت أنِّي اعتدت على العمل والخروج من المنزل وعدم الاكتراث لباقي التفاصيل الصَّغيرة/ الكبيرة التي بدأت أعايشها اليوم، اتَّفقنا على تغيير نمط حياتنا وإعادة ترتيب المسؤوليات الملقاة على عاتق كلِّ منَّا، صرت أساعدهم في أعمال المنزل، ويضحكون معي على أخطائي، في الوقت الذي تفرَّغت فيه زوجتي لرؤية فيلمها المفضل، أو النَّوم لساعاتٍ أطول… جلست مع أبنائي، وتعرَّفت مجدَّداً عليهم، وفهمت الكثير عن هذا الجيل الذي وصفته مراراً بالفاشل، فوجدت أنَّ لديه الكثير من القدرات والإمكانيات والرؤى المستقبلية المختلفة كلِّياً عمّا يفكر ويتعامل به أبناء جيلي، ولمَ لا؟ اختفى الملل، وحلَّ الهدوء والانسجام والمرح بدل التَّوتر السَّابق، اكتشفت أني أعيش مع أجمل الأشخاص، واعترفت أنَّنا جميعاً كنا بأمسِّ الحاجة لمثل هذه الفرصة.

آخر يقول باللهجة العامية: (حلّ عني، بلا حجر بلا بطّيخ، ما صدّقت كيف طلعت من البيت!) لم يكن لدي ما أفعله، شعرت بالملل، وكدت أختنق من العدد الكبير الموجود معي في المكان نفسه على مدار السَّاعة، زادت خلافات أمي وأبي، وصار الصُّراخ على أتفه الأمور هو شعارنا، فكلٌّ منَّا اعتاد على نمطٍ خاصٍّ في حياته، ولم يخطر ببال أحدنا أننا سنعيش هذا الحبس، صرنا نبحث عن فرصةٍ مهما صغرت للابتعاد عن الجميع، حتى وجبات الطَّعام لم تعد تجمعنا، ويختم كلامه باللَّهجة ذاتها: (لا أخي! يلعن أبو الحجر على أبو السّاعة اللي انحجرنا فيها! يا مَحلى الدوام والرّفقات، مو مصدق إيمت نرجع متل ما كنّا…).

هذا حال أسرنا جميعها، في هذه الأيام، بين من تمكَّن من الإفادة من فترة الحجر القسري فراح يعمل على ترميم ما فاته سابقاً، ويعيد بناء جسور التَّواصل مع أقرب المقرَّبين، وتعلُّم مهاراتٍ جديدة، وتبادلٍ للأدوار في تحمُّل مسؤولية البيت والعائلة، ومن كانت هذه الفترة بمثابة حبسٍ لم يعرف كيف ومتى تنتهي، ما أدَّى إلى مزيدٍ من التَّفكُّك والتَّشرذم.

كم كنَّا جميعنا فعلاً بحاجةٍ إلى مثل هذه التَّجربة، لنكتشف الكثير ممَّا لم يكن لدينا المجال لاكتشافه، سواء في أنفسنا أو في غيرنا، ولنبدأ من جديد، فكلُّ يومٍ هو بدايةٌ أخرى، مهما تشابهت هذه البدايات لا بدّ من أن تحمل بعض الاختلافات التي تعمل على تغيير نمطية تفكيرنا وآليات تعاملنا، الأمر الضَّروري لاستعادة بريق الحياة رغم كل السَّواد الذي يحيط بنا، ورغم كل مسبِّبات الضِّيق والألم والخلافات، إذ لم يتبقَّ لدينا إلّا هذه العلاقات البسيطة / العميقة في الوقت ذاته، فلنحاول العمل على ترميم ما فاتنا، في مواجهة الموت اليومي الذي نعيشه إمَّا بسبب الوضع الاقتصادي المتردِّي في السُّوء والتَّدهور، أو بسبب محاولات البعض وأدنا واغتيال الحلم في أعيننا.

العدد 1104 - 24/4/2024