من منظورٍ آخر

غزل حسين المصطفى:
(ورد)، الذي أبصر النور قبل وصول جائحة كورونا إلى بلادنا بقليل، هو المستفيد الأكبر من الحجر الصحي، عمره لم يتجاوز بضعة أشهر بعد، لكن الفرصة كانت لصالحه كي ينعم بوجه والدته صباحاً ومساء، يشبع من حليبها ويكتشف هذا العالم بين يديها، فوالدته طالبةٌ جامعية تعمل على إنهاء مشروع تخرّجها، كانت ستسرقها الأيام من أمومتها أو أنها ستؤجل التزاماتها الجامعية إلى إشعارٍ آخر.
من قال إن كورونا لم يُفسح لنا المجال لنُعيد الحسابات، ونستعيد شريط الذاكرة؟!
(بعد ما يزيد عن ثلاثين عاماً من الزواج، للمرة الأولى نجلس معاً لمدةٍ طويلةٍ متواصلةٍ، وقد عاد لمائدة الطعام مقامها وكلّ مكانٍ قد آنسه صاحبه).
هذا ما قالته جارتي في ردّها على فترة الحجر الصّحي، وأكملت: (صور عتيقة افترشت طاولات السّهر وتمتمات أحاديثَ قديمةٍ عادت لتكون حاضرةً من جديد).
أما النتيجة الأهم التي وصلت إليها فكانت بعد مضي أيام معدودة من شهر رمضان المبارك، إذ أدرك زوجُها التعب الفعلي المترتّب على تعدّد أصناف الطعام أو حتى المدة الزمنية اللازمة لتحضير صنف واحد وما يلحقه من أعمالٍ منزلية أخرى، فبات يكتفي بطلبات معقولة بنظره، وبين الحين والآخر يطلب من الله المدد والصبر لربّات المنازل على تحمّلهنّ لفكرة المكوث في المنزل وتدبّر أموره دون كللٍ أو ملل.
رغم ما ذكرت في الأمثلة السابقة وما لم نذكره من إيجابيات علنية أو غير معترف بها صراحةً إلاّ أن الحجر كان له وقعٌ مختلف عند كثير من العائلات التي اغتنمته في إعادة ترتيب أولوياتها العائلية والشخصية وحتى المهنية، بما ينعكس إيجابياً على السلامة العامة لحالة العائلة، وكذلك الفرد بذاته، كما أننا لا نستطيع إنكار حالة الألفة التي خُلقت مُجدّداً، ورغم تحفّظي على الفكرة ببعض التفاصيل لكنني سأذكرها، إذ ظهر مؤخراً تطبيق يُسمى (جواكر) يحمل ألعاب الورق ولكن إلكترونياً ممّا جعل كثيرين يلجؤون إليه للتسلية والتفريغ، وانطلاقاً من عائلتي مثلاً استطاع والدي اللعب عبر هذا التطبيق وشبكة الإنترنت مع إخوته في دولٍ أخرى، وما رافق ذلك اللعب من استعادة ذكريات الصبا والأيام الخوالي لهم مع (بنت الكوبّا والطرنيب)! ولولا ما نحن عليه لبقي التواصل بينهم مُقتصراً على اتصال بين اليوم والآخر أو في الأسبوع مرة واحدة تبعاً للمشاغل.
كل هذا لن يغنيني ولن يثنيني عن ذكر نقطة دائماً ما تقضُّ مضجعي وتأكل جفوني، لذا سأسرق الحديث قليلاً باتجاه إناث كان الحجر الصحي المنزلي برتبة ضربة قاضية لهنَّ، فأصبح (الكفّ) اليومي بسيطاً جداً أمام التعنيف بمختلف أساليبه ولفترة متواصلة ومن عدة أطراف دون رحمة.
فيروس كورونا أعاد صياغة العالم بأكمله، فالموازين جميعاً ستُقلب أو قُلبت، ما بين القوى الحاكمة والقوى الضعيفة.
اقتصاد العالم تُعاد صياغته، أممٌ بحالها تعود لنفسها ولروحانياتها وتكتشف من جديد.
تصنيفات وترتيبات وأمور لا يمكن حصرها أو اعتماد مدى أهميتها ونقطة الكسب منها، إلّا العنف هناك مازال قابعاً بكل شراسته ينهش بشراهة وبلا تردّد.
ودائماً ما أقول: (على أمل…).

العدد 1102 - 03/4/2024