العمل من المنزل… فوائد ومتطلَّبات

إيناس ونوس:

تتطوَّر البشرية حين تستعين بالمنطق الذي يتطوَّر أيضاً، بما يُحاكي ويتناسب مع الواقع واحتياجاته ومتغيِّراته، من خلال استخدام العلم والفكر، والعمل على تطويرهما المستمر، حتى وصلت إلى ما هي عليه اليوم، وقد نالت أساليب وأشكال العمل قسطها من هذا التَّطور، فقد تغيَّرت نمطية العمل على مرّ العصور، ومرَّت بمراحل متنوِّعة، من العمل اليدوي إلى إنشاء المصانع والشَّركات، كما أن أساليب تواصل العامل مع عمله قد تبدَّلت وتغيَّرت كثيراً، إلى أن وصلنا اليوم إلى طرقٍ جديدة، كالقيام بالعمل من المنزل بدل الذَّهاب اليومي إلى مكان العمل.

تُعتبر هذه النَّمطية من العمل جديدةٌ كليَّاً على مجتمعٍ كمجتمعنا مقارنة بمجتمعاتٍ أخرى، فقد بدأت تستخدم منذ سنواتٍ قليلة، وظل استخدامها مُقتصراً على أعمالٍ مُحدَّدة، إلَّا أن ما أدى إلى زيادة انتشارها مؤخراً هو الحجْر المفروض الذي نعيشه اليوم تحاشياً لانتشار وباء كورونا المُستجّد، ولا يزال النَّاس بين متوافق معها أو معارضٍ لها، فهذه الآلية لم نعتد عليها بعد، رغم أنها تمتلك بعض الميِّزات الإيجابية، التي ستنعكس بالضَّرورة على العامل وربِّ العمل وعلى البلاد بعمومها، فعلى سبيل المثال:

– أسرياً: إنَّ وجود الشَّخص في بيته ومع أفراد أسرته في الوقت الذي يقوم فيه بعمله من شأنه أن يُفضي إلى علاقاتٍ أسريةٍ أكثر تماسكاً، بحكم التَّواصل المباشر اللَّحظي، بينما كان الذهاب إلى العمل يفرض على الأب في غالب الأحيان، وعلى الأم أحياناً، الغياب عن بيت الأسرة، فكم من أطفالٍ كبروا وهم لا يعرفون أباهم أو أمهم إلاّ بالقدر اليسير الذي يفرضه الواقع والمعيشة في المسكن ذاته! وكم من أبٍ أو أمٍ فوجئا بأبنائهما وقد كبروا في غفلةٍ عن أعينهم!

– اقتصادياً: يوفِّر هذا النَّمط من العمل العديد من المصاريف النَّاتجة عن استئجار مكان العمل، أو البيت، أو أجور النقل والمواصلات، وفواتير الكهرباء والإنترنت وغيرها.

– زمنياً: من شأن طريقة العمل هذه أن توفِّر من استهلاك الوقت الذي يضيع معظمه على الطُّرقات دون جدوى، بينما حين يتمّ إنجاز المطلوب في المنزل، فهذا سيصبُّ في صالح العامل وأسرته، وتطوُّره وتنمية مواهبه التي يفضِّلها ولا يجد الوقت المناسب لها في شكل العمل التَّقليدي.

غير أن هذا الأسلوب يحتاج إلى توفّر بنيةٍ تحتيةٍ سليمةٍ ومتينة، وأهمُّ عناصرها توفر الكهرباء والنِّت على مدار السَّاعة، وربط جميع العاملين بشبكةٍ واحدةٍ بحيث يكون التَّواصل بينهم سهلاً وسريعاً وملبِّياً لمتطلَّبات العمل، إضافةً إلى الالتزام الحقيقي والواعي من قبل العاملين وتعاملهم مع شكل عملهم الجديد بجدِّيةٍ وحرفيةٍ وليس كتحصيل حاصل، ما يفرض على ربِّ العمل أيضاً الالتزام بواجباته تجاه من يعملون لديه، وهذا يحتاج إلى سنِّ قوانين جديدةٍ تحكم هذا النَّمط من العمل، بحيث تضمن حقوق كلٍّ من العامل وربِّ العمل، كما تضمن نتائج هذا العمل، ما يؤدِّي لأن تعتمدها الحكومة وتعمل على الأخذ بها في مسار التَّنمية وبناء المجتمع. من البديهي ألَّا تعتمد بعض الوزارات هذا النَّهج في العمل، ذلك أن لطبيعة عملها متطلَّباتٍ مختلفةٍ أهمَّها ضرورة الوجود المباشر، كالمستشفيات والمستوصفات أو المنشآت الإنتاجية، أو المهن الحرَّة، وبالمقابل فإن العديد من أماكن العمل الأخرى وجدت فيه فائدةً لها ما جعلها تزيد من أرباحها ومكاسبها، فهل كنَّا بحاجةٍ لهذا الحجر الصِّحِّي الذي يعيشه العالم بأسره، حتى نتوصَّل إلى اعتماد هذا النَّمط من العمل؟ فإن كنّا كذلك فها هي ذي الفرصة بين أيدينا لنُعيد النَّظر في آليات تطوير أساليب العمل ومحاولة الإفادة من أي أمرٍ من شأنه أن يعود بالفائدة على الجميع على حدٍّ سواء.

العدد 1104 - 24/4/2024