المستقبل من منظور (الديمقراطية الاجتماعية) (2)

صفوان داؤد:

الحرب السورية وجائحة كورونا والنزوح والهجرة والفقر كلّها بدّلت الواقع والتطلعات في سورية، وحتى الآن لم تستطع الحكومات فيها، استيعاب التغيّرات الحادة التي تحصل. ولا يزالون يفكّرون ويعملون وفقاً للثقافة السياسية الدوغمائية التي تناسب عالم الأمس لا عالم اليوم. وإذا كان هناك مخيال نظري لما سيكون عليه المستقبل من منظور مفكري (الديمقراطية الاجتماعية)، فإن أزمة كورونا ستشكّل، بلا شك، نقطة الانطلاق لأول مجتمع ديمقراطي اشتراكي محتمل لما بعد الرأسمالية في العالم. لكن هنا في بلادنا حيث الحرب أنهكت كل شيء، وحيث مفاهيم الاشتراكية أشبه ما تكون بورقة التوت، فإن الواقع يرينا كيف أن جُلّ الآباء السوريين يقضون حيواتهم غارقين في الفقر. وثمة الألوف من الشباب والشابات ممن عزفوا عن إكمال مسيرتهم التعليمية. وبدؤوا على نحو متزايد الابتعاد عن دورهم الطبيعي. ولقد نُحّيت دراسة العلوم والفنون والإنتاج الثقافي جانباً، من أجل الركض والركض فقط من أجل لقمة العيش. ومع هذه التغييرات النكوصية بدا أن النظام الاجتماعي الذي كان سائداً قبل الحرب السورية قد تحطّم كلياً. وبترافقه مع الفساد المُمنهج وغياب الإرادة السياسية والشعبية للتغيير، لم يعد هناك مكانٌ محدّد في النظام الاقتصادي يمكن عدّه نظاماً طبيعياً، سوى أنه سلسلة من عمليات احتكارية وتسهيلات قانونية للقوى الاقتصادية المُسيطرة. وحتى عندما نجحت الحكومات السورية وفقاً لشروطها الخاصة في بعض المسائل هنا وهناك، فإن التنمية كانت مصحوبة بعدم تلبية الاحتياجات الأساسية للمواطنين الأكثر هشاشة، او أنها تبخرت ضمن قنوات الفساد. والفساد ليس مسألة أخلاقية تُعالج ضمن القيم الأخلاقية والإنسانية فقط، بل ضمن الحقل السياسي. وإذ بقي النظام البرلماني والتشريعي ممثلاً بمجلس الشعب بشكله الحالي، سيحدث أنه مراراً وتكراراً سيعاني المواطن السوري فشل التجارب الاشتراكية السابقة، التي تحاول الحكومة بين فينة وأخرى تطبيقها، والتي نرى تجلياتها المادية في تزامن زيادة طوابير المواطنين على كل شيء تقريباً. نستشهد هنا بموقف (كَ) في رواية كافكا الشهيرة (المحاكمة) عندما يدرك أن السُّلطة فاسدة بدلاً من أن تكون على قدر المسؤولية. ورغم أن شعوره بالذنب لا يفارقه، إلا أن شعوره كذلك بافتقارها لأي مبدأ لا يفارقه أيضاً. هذا المزيج من الخضوع والتمرد هو السمة العامة للمواطنين في المجتمعات التي تغيب عنها الديمقراطية. إن الديمقراطية هي نهج يخلق الظروف السياسية والحضارية لتطور الفئات العاملة، وإن تحقيق الديمقراطية الاجتماعية يتطلب وجود مؤسسات كُفْأة وخاضعة للمساءلة (أمارتيا سِن)، والمؤسسة هي البنية التي توجد لتحقيق أهداف محدّدَة للمجتمع وفق سياق اجتماعي يتحايث عبر عقد سياسي معين، وهي تزوّدنا بذهنيات وأدوات توجّه طاقتنا وتساعد المجتمع على تحقيق أهدافه المتمثلة بتغيير الأمر الواقع نحو الأفضل. هكذا تصبح الديمقراطية عنصراً في إعادة تشكيل الواقع السياسي والاجتماعي.

إن الوضع الحالي يضع الفئات العاملة السورية أمام تحديات جديدة غير مألوفة تهدّد مستقبلها، خاصة مع ترهل منظماتها النقابية التي وقفت عاجزة عن إحداث أي تغيير لصالح أعضائها.

إن السياسات التحريرية في سورية، بعكس الإطار الإيديولوجي المُعلن، قد تمت في سياق غير ديمقراطي أبعدتها عن الولوج إلى مطالب المواطنين، نستشهد هنا، على سبيل المثال لا الحصر، كيف تم اغلاق مصنع المحركات الكهربائية في اللاذقية، وتحجيم شركة بردى للصناعات الهندسية لصالح شركة خاصة تحتكر سوق الكهربائيات في هذه المحافظة؟ ظهور شركات التجميع الرخيصة كمسارب للتهرب الضريبي بذريعة أنها إنتاج وطني. إغلاق معمل الرخام وهو واحد من أكبر المعامل في سورية، لصالح المعامل الخاصة في اللاذقية؟ إيقاف توجه شركة سيرونيكس إلى إنتاج الهواتف المحمولة لصالح الاستيراد، إغلاق معمل الورق في دير الزور لصالح الاستيراد، إغلاق مصنع بطاريات (برق)، وإغراق السوق ببطاريات مستوردة من شرق آسيا منتهية الصلاحية؟ خصخصة قطاع الطاقة والثروات المعدنية لصالح شركات أجنبية حليفة تتبع لها شركات خاصة محلية، وغيرها من الأمثلة.

إن العمل المؤسساتي في سورية قد تضرّر بغياب المساءلة، ولا يمكن أن تسير الديمقراطية الاجتماعية دون نظام مؤسساتي راسخ يعمل على تحقيق رفاهية المجتمع وصون حقوقه. وفي المجتمعات الديمقراطية ليس قطاع واحد فقط هو ما يضطلع في تحديد الصالح العام، بل مجمل قطاعات الشعب معنية بهذا الأمر، بالتالي ستكون المؤسسات الشاملة هي المعيار، لكن هذا المعيار غير ناضج في سورية ولا يحقّق أيّاً من الشروط الأساسية له، إذ يشير التقرير الوطني للتنافسية الصادر عن (هيئة التخطيط والتعاون الدولي)، دمشق، والذي استمر بعد ذلك عاماً بعد عام، ضعف شديد في الأداء المؤسساتي في سورية، البيروقراطية، الفشل في الإدارة العامة، هدر الأموال العامة، ضعف السياسات العامة الشفافة. مقروناً مع:

 أ) توظيف عالٍ في القطاع العام معادلاً مؤسسات غير كفأة.

ب) دخل فردي منخفض معادلاً خدمات اجتماعية شبه مجانية.

ج) إنتاجية منخفضة معادلاً دعم للسلع الاساسية.

مثل هذه المؤشرات أعطت للحكومات السورية سمة اجتماعية، لكن مع ترافق ارتفاع نسبة الفقر إلى مستويات قياسية، فإن عدم استقرار بعيد المدى قادم لامحالة، إذ لا يمكن لهذا الوضع أن يُضبَط في بيئة سياسية غير ديمقراطية، غير قادرة على حماية البلاد من أزمات صحية أو بيئية أو حركات شعبية كبرى، وهذا ماثل أمامنا تقريباً في اجتماع أزمات الحرب وجائحة كورونا.

لقد أدى احتكار القرار الاقتصادي في يد القوى الاقتصادية المُسيطرة عبر قوانين وتشريعات مناسبة لها إلى جني المضاربين مليارات الليرات السورية، وسببت ضرراً كبيراً في العملية التنموية ومؤشرات التنافسية، فقد احتلت سورية عالمياً المرتبة 129 و111 من أصل 143 في درجة (شفافية صنع السياسات الحكومية)، وانتشار (الرشوة) على التوالي. وفي الأساس وفي وغياب وجود سياسة عامة تضمن حداً أدنى للأمن الاجتماعي، سادت حالياً آليات اقتصاد السوق الناتجة عن التسهيلات التشريعية الحكومية الداعمة للمبادئ الليبرالية كإطار قانوني يمكن أن تتحرر عبره القوى الاقتصادية المُسيطرة من مطالبات المجتمع، والتمادي أيضاً في ممارساتهم الاستغلالية.

هل ستُخرج أزمة كورونا مقرري السياسات في سورية، من كهف الماضي والشعارات الرنانة، أم سيبقون دون تحمّل المسؤولية؟

جائحة كورونا نقطة تحول للتفكير البشري، ولا بد من انتهازها والتخلي عن السياسات الليبرالية، والتوجه نحو النهج الديمقراطي الاجتماعي، الخيار الأفضل للمستقبل. ولكن لننتبه، فلا نكون بانغلوسيين (Pangloss) ونعتبر بتفاؤل ساذج أن الديمقراطية هي حتمية الحتميات، ولنتذكر أن الشعوب الأوربية التي ترزح تحت جائحة كورونا قد انتخبت حكوماتها بشكل ديمقراطي، وهي التي فشلت حتى بتأمين الكمامات. إن النهج الديمقراطي يجب أن يكون مضبوطاً بشمولية المعايير الإنسانية وحقوق الإنسان.

في خِضم كل هذا، نعتقد أن النخب السورية ممن تعمل وترى نفسها مُلزمة أخلاقياً بالبحث عن سورية مختلفة جذرياً، لم تختفِ بعد.

العدد 1104 - 24/4/2024