أم الحياة… تستحق الحياة

إيناس ونوس:

لم يكن موقع فلسطين الجغرافي عاملاً مسانداً لازدهار هذا البلد والنُّهوض بشعبه كأيّ بلد يمتلك موقعاً جغرافياً مُميّزاً، بل كان ويبقى السَّبب الرَّئيس في الويلات والحروب والكوارث التي لحقت بهذه الأرض وأبنائها، ولمَّا يزل حتى يومنا هذا.

منذ عشرات السِّنين لا يزال هذا الشَّعب صامداً بوجه محاولات تهويد البلاد، مُقدِّماً من الأرواح والأجيال ما لا يُحصى، لم يكلّ ولم يملّ خدمةً لقضية وجوده وأرضه، رغم كل محاولات الدُّول الغربية للوقوف بجانب إسرائيل بكل الأشكال والطُّرق، ابتداءً من رفع الفيتو بوجه أيّ مشروع قرارٍ يمسُّ الأراضي أو القضية الفلسطينية، وليس انتهاءً بتقديم كل التَّسهيلات أمام الفلسطينيين من حيث منح الجنسية أو الإقامة على أراضيها مقابل التَّنازل عن حق العودة الذي نصَّت عليه المواثيق والأعراف الدَّولية، لتخلو الأرض من سكَّانها الأصليين وتغدو مهيَّأة للعابرين الجُدُد، الذين يستخدمون، تحت غطاءٍ من المنظَّمات الدَّولية، وبكل وقاحة، كل السُّبل والوسائل لتحقيق الأهداف التي قامت عليها فكرة نشوء إسرائيل، لاسيما في أيامنا هذه، فكلُّ دول الجوار مشتعلة ومشغولة بأمورها، تقوم قوات الاحتلال بلعبتها المُتجدِّدة بقصف وتدمير كل ما أُعيد بناؤه بعد كل مرة، في ظلّ تعتيم إعلامي كامل عن كل ما يجري من مجازر بحقّ هذا الشَّعب المقاتل من أجل الحياة، التي لم يعش منها شيئاً منذ ولادته.

حان الوقت لأن يحيا الفلسطينيون في أرضهم وأرض أجدادهم مثلهم مثل كل شعوب الأرض، لكن هذا يتطلَّب تضافر جهود جميع القوى المناضلة والمقاومة ورصِّ صفوفها لتُصبح صفَّاً واحداً، يشترك بالأهداف ذاتها، لا أن تبقى التَّفرقة هي المهيمن الوحيد ونقطة الضَّعف التي تستغلُّها القوى المعادية حينما تسنح لها الفرصة، يُضاف إلى ذلك ضرورة وجود حكومات وطنية جديرة بتحمُّل المسؤولية المنوطة بها، لا أن تلهث خلف مكاسب مؤقتة شخصية رخيصة، على حساب المكسب العام الأغلى والأكثر قيمةً ألا وهو الأرض والشَّعب.

أمّا أن نبقى نتغنَّى بتاريخٍ أكل الدَّهر عليه وشرب، ونحن لا نعرف عن الحاضر شيئاً ولا نفهم معنىً للمستقبل، بينما تبني باقي الدُّول المُستحدثة تاريخياً مستقبلها المُتميّز مُنطلقةً من أهمية وجودها، ومُعززةً قيمة هذا الوجود بالمزيد من التَّطوير والعمل على الإفادة من كل الطَّاقات البشرية والفكرية والعسكرية والاقتصادية التي تمتلكها، فهذا التَّمجيد لتاريخٍ مضى لم ولن يعودَ بالفائدة على أحد، بل على العكس إنه يُعيد الحياة إلى عصور ما قبل التَّاريخ.

لم يعد يكفي الفلسطيني يومٌ عالميّ للتَّضامن مع قضيته، تضامناً لا يتعدَّى بضع كلماتٍ تُلقى على المنابر الدَّولية، بل إنه بأمسّ الحاجة إلى الوقوف بشكلٍ فعَّالٍ وملموسٍ يؤتي ثماره حقيقةً، إنه بحاجةٍ إلى أعمالٍ تنعكس على أرض الواقع بحيث يتحوَّل القول إلى فعلٍ جادٍّ يوقف آلة الهمجية والدَّمار والقتل والتَّقسيم اليومي المُمارس بحقِّه، سواء بشكلٍ مباشرٍ من قبل إسرائيل أو غير مباشر مُتمثّلاً بمواقف جميع دول الأرض دون استثناء والتي لا تتجسَّد إلاّ ببضع وقفاتٍ احتجاجية ينتهي منها المشاركون فيها ليذهبوا للنَّوم مطمئني الضَّمير، بينما يغطِّي الموت أطفال هذه الأرض وشيوخها ونسائها، الأرض التي كما وصفها شاعرها محمود درويش بأنها أم الحياة، وعليها ما يستحقُّ الحياة!!

 

العدد 1104 - 24/4/2024