جـرح عـلى عتبـة الذاكـرة

مرح محمد نبيل السمكري:

أكتب عن هذا الجرح وأنا مُثقلة بالحزن، حزنٌ تنعى فيه أرضكَ المقدّسة، العابقة بضوع البرتقال، واللامعة بسحر زيتها، الأرض التي أنجبت الأنبياء والقديسين والقِبلة الأولى، وزفرت من أرحام نسائها أبطالاً يعلّمون النضال معنى النضال.

فلسطين، الجرح الذي استيقظنا على هذا العالم ونحن نتبنّاه، وكبرنا وهو ينزف فينا. لقد كانت فلسطين الحديث الرسمي لكل نشرات الأخبار، والأغاني الوطنية، ودروس (التربية القومية)، حتى الجلسات العائلية، تاريخ كامل مرّ على أسماعنا، منذ (سايكس بيكو)، إلى أن أعطت بريطانيا وعداً لليهود بإقامة وطن قومي لهم داخل فلسطين، ثم الاحتلال البريطاني لفلسطين أثناء الحرب العالمية، ثم مصيبة 1947 عندما أصدرت الأمم المتحدة قراراً بتقسيم فلسطين إلى دولتين عربية وإسرائيلية، إلى نكسة 1967 التي اغتصبت فيها إسرائيل القدس الشرقية والضفة الغربية، وهضبة الجولان السورية، وشبه جزيرة سيناء المصرية، وبعد ذلك عقد اتفاقية سلام مجملها إعادة قطاع غزة والضفة الغربية للفلسطينيين، ولكن حتى يومنا هذا ما زالت الحرب قائمة في تلك الأراضي، مازالت تجني الأرض شبابها باكراً، مئات الصواريخ تقتحم بيوت الفلسطينيين لتحصدها بمن فيها من الرجال والنساء والشباب والأطفال، وبحسب إحصائية أُجريت عام 2018 فقد بلغ عدد الشهداء الفلسطينيين من عام 2000 إلى تاريخ الإحصائية 10000 آلاف شهيد. وبلغ عدد الشهداء المدافعين عن فلسطين (من داخل فلسطين وخارجها) ما يقارب 100000 شهيد.

ولكن الكثير من العرب لا يعرفون أو لا يهتمون بما إن كانت الحرب ما زالت قائمة في فلسطين، كثيرون يعتبرون أن هذه القضية أصبحت قضية تاريخية وانتهى وقتها بسبب زحمة الأوجاع، فقد دارت عجلة الحرب لتقف عند عدّة دول عربية، مثل مصر وسورية ولبنان والعراق والسودان وليبيا واليمن والجزائر، فكيف للعقل أن يحتمل كل هذه المصائب؟ وكيف يبقى مُتّسع في القلب ليتعاطف وينتفض لكل ما سبق؟ هل يستطيع الإنسان العربي أن يبكي على فلسطين والقنابل تنفجر تحت بيته في سورية؟ هل يتعاطف مع فلسطين والرصاص يضرب أولاده في العراق؟ ويعتقل أهله في مصر، ويطلق الرصاص عليه في لبنان؟

لقد تحقّقت أماني أجدادنا وصرنا (أمّة عربية واحدة)، لكنها واحدة في الحرب والألم، وتوّحدت بالفقر والخوف والجهل، ولا أعتقد أن الحلم كان كذلك، لقد تحقّق بمعناه التجريدي الحرفي.

وبالمناسبة، الجائع لا يقرأ، لأنه يقضي يومه في السعي وراء قوت معدته، والخائف لا يقرأ لأن خوفه أفقده الرغبة في التركيز، والجاهل لا يقرأ لأنه ببساطة لا يعرف، أو ببساطة أكبر لا يريد، وبذلك تكون فكرة تحرير فلسطين قد شارفت على الاندثار من الذاكرة العربية، وحتى من ذاكرة أحفادها الذين غادروها بحثاً عن القليل من الأمن. لكنّنا لم ننسَ محمد الدرّة وصورته، ولم ننسَ غسان كنفاني وجسده الذي تناثر في عكا وحيفا والقدس وطبريا ويافا بحسب تعبير محمود درويش، لم ننسَ محمود درويش وقصائده عن وطنه وشعبه، وحنظلة المتألم الذي أدار ظهره لنا جميعاً، لم ننسَ مذبحة دير ياسين وشناعتها، كل هذا مازال في الذاكرة، لكن يبدو أنه أصبح في زاوية ثانوية منها، وصار في مقدمتها آلامُ أوطاننا، فأنّى للمريض أن يشفي جاره المريض؟ فمن الأولى أن يشفي نفسه لتصبح لديه القدرة على مساعدة إخوته، من الأولى أن نُنقذ أنفسنا من الضربات الصهيونية على بلادنا، وأن نُعلّم آلاف الأطفال الذين أجبرتهم الحرب على الخروج من المدارس، وأن نكفل اليتامى ونُبدّل الخيام ببيوت دافئة، من الأولى للمواطن العراقي أن يُطيح بكل حركة تمتص دمّه باسم الوطنية، ومن الأولى للبناني أن يوحد آراء بلده، وللمصري أن يقضي على الفساد الذي تجاوز حدّ المعقول، عند ما ننجح جميعاً في ذلك، ستعود فلسطين إلى صدر الذاكرة، وريثما تتحقّق أمانينا، نتوسل إلى الفلسطينيين أن يغفروا لنا، فنحن ننتحب على أوطاننا مثلهم، ونرجو منهم أن يتوحدوا ليملؤوا مكانهم ومكاننا.

 

العدد 1104 - 24/4/2024