في فـلسطـين جمـع الرومـان والبريطانيون ونابليون أشياءهم وانصرفوا

سامر منصور:

أيُّ حدث دموي كان يجري في حق الشعب الفلسطيني كان يرافقه حراك في الشارع العربي، وبعد أن حدث الجحيم العربي عبر ترك الأنظمة العربية للغرب ولقوى اقليمية فرصة الاستثمار في الجهل والفقر الذي تحرسه هذه الأنظمة كي تولد ساعة تشاء ما هو أقبح منها، فتغطي بذلك قبحها وتخلّفها بقبح الحراك الرجعي الماضوي من إرهاب وتطرف إرهابي، ورغم أن الأمور خرجت عن السيطرة وسقطت رموز بعض الأنظمة إلاّ أن الغرب بارك التوائم السيامية لها، وبقي الشارع العربي أنهاراً للدماء والدمع وهتافات الجياع والمُشردين، ولم يتراجع الصوت العربي الهاتف بالحرية والكرامة لأبناء الشعب الفلسطيني، لكن تراجعت قيمة الإنسان العربي واصطخبت حنجرته حتى أدغمت جميع كلماته بالآه.. ولا مجيب !! أمّا الدول والممالك العربية الثرية التي أعرضت أنظمتها عن مُتلازمة الإفقار واكتفت بالتجهيل.. فقد نجح الغرب عبر العولمة والاختراق الثقافي ونشر ثقافة الاستهلاك وحُمّى الموضة بإشغال نسبة كبيرة من تلك الشعوب عن قضايا المنطقة العربية المرتبطة بمصيرها واستقرارها وإمكانيات التعاون والازدهار والنهضة التي يمكن أن تُحدثها مشاريع كالتكامل الاقتصادي العربي وغيرها. ولا يبدو أن هناك خياراً آخر سوى إشعال المنطقة لحماية المخلب الاستعماري الصهيوني الذي تسبّب حزب الله في حرب تموز بإرغامه على إغلاق مطاراته الدولية خوفاً من وتيرة الهجرة العكسية المُتسارعة والتي هدّدت بتشرذم أعداد غير قليلة من الشعب المزعوم للكيان الصهيوني وعودتهم إلى أوطانهم الحقيقية. إن حماية كيان هشٍّ يعيش على أجهزة الإنعاش الاقتصادي والتضليل الإعلامي والسياسي، حيث انقطاع المساعدات الغربية المالية وحده كفيل بانهيار اقتصاد الكيان الصهيوني خلال شهر واحد.. إن حماية مثل هذا الكيان كان بلا شكّ من أهداف تأجيج الحروب والصراع بين أبناء البلد الواحد في المنطقة العربية برمتها.

وبما أن نزيف الدماء في بعض الأقطار العربية وصل إلى مدىً مرعب، فمثلاً في شهر من مرحلة ذروة النزيف السوري بلغ عدد القتلى من السوريين ما يساوي عدد القتلى في عام كامل في فلسطين.. وفي ظلّ هذا النزيف من الصعب إقناع عامّة الناس في هذا البلد أو ذاك أن هناك ما هو أهمُّ من قضيتهم هم، خاصّة أن عدداً من الدول العربية كان مُهدداً بالتقسيم كالعراق وسورية وليبيا مثلاً.

إن الكيان الصهيوني اليوم أشدُّ قدرة على الانفراد بالشعب الفلسطيني بعد أن تمّ تدمير سورية أهم الدول العربية الداعمة والراعية للمقاومة. اليوم، أصبحت المجازر والأزمات والصراعات المُعقدّة بمثابة دوامة توجع الرأس بالنسبة للشعوب العربية في الدول التي لم يعصف بها الجحيم العربي. اليوم، الفلسطينيون أمام نوعين رئيسيين من الشارع العربي: شارع آمن مُترف يغلب عليه طابعه الاستهلاكي المُعولم ويتمّ فيه تشييء الإنسان على قدم وساق. وشارع عربي آخر مهزوم معنوياً، يطغى فيه صوت الأمعاء الخاوية على صوت العقل أحياناً. إنه شارع مراياه برك الدماء، أفقه دخان الإطارات المشتعلة الأسود، أرصفته أَسِرّة للمشردين وتشققاته مندملة بالأشلاء، وإسفلته تقشره جنازير المدرعات وتصفعه أحذية كلاب السلطات الظالمة.

أثبتت العديد من الأنظمة العربية أنها قادرة على ممارسة إرهاب الدولة ضدّ شعوبها، وبذرت الأرض بالمقابر الجماعية لتزرع الرعب في نفوس من لا يُقدّم فروض الطاعة. ولعلّ على الشعب الفلسطيني أن يعي في ظلّ هذا، أن عليه التحلي بالمزيد من الصبر والقوة ليتابع دوره الجليل في كونه درع الأمة في مواجهة السرطان الصهيوني.

ويبقى الفلسطيني إلى يومنا هذا أعزُّ العرب وعزّهم، فهو لا يحتفظ بحق الردّ، بل يبادر بالانتفاضة والمقاومة والفداء، ولم يطلب تهدئات رغم كل العدوان الوحشي عليه بقدر ما أجبر الصهاينة على طلبها. في فلسطين هُزِم جيش نابليون، والفلسطينيون أجبروا بريطانيا في ذروة مجدها على إلغاء وعد بلفور وسحبه واستبداله بما سُمّي بالكتاب الأبيض. في فلسطين انكسرت شوكة الطغيان وستنكسر بإذن الله، ولكن على الفلسطيني ألا ينصدم وتنتكس معنوياته بسبب عجز الشارع العربي عن دعمه. وعليه أن يدرك أن الغريق لا يغيث الغريق وأنه ليس من الحكمة أن يستنجد الغريق بغريق، فالاستبداد والاستعمار وجهان للظلم والجشع والنهب والإذلال، والشرُّ لا يوزع حسب الجنسيات وجوازات السفر، فأكثر الناس جشعاً ولؤماً قد يكون في الولايات المتحدة وقد يكون في المبنى الذي أقطنه، وعلينا أن نعرف جيداً أن هناك نسبة من الجشع للمال أو الجاه أو السلطة عابرة للجنسيات، فالأشرار إخوة حين يلوح المغنم المشترك. وباعتقادي بعض العرب وبعض الفلسطينيين أشدُّ خطراً على القضية الفلسطينية من بعض الغربيين المناصرين للعدو.

في النهاية، الاحتلال الصهيوني كأيّ احتلال مصيره إلى الزوال، ولكن لأننا في وهج الأزمات ربما لا نرى ذلك بوضوح.. لكنّ الصهاينة ليسوا أشدّ بأساً من الرومان في زمانهم، وليسوا أشدّ تقدماً من بريطانيا، وقادتهم ليسوا أشدّ طموحاً وإصراراً من نابليون و.. و.. و.. وفي النهاية كُلّهم مارّون جمعوا أشياءهم وانصرفوا، وبقيت فلسطين وبقي الفلسطيني.

 

العدد 1104 - 24/4/2024