ليست يوتوبيا

مرح محمد نبيل السمكري:

في حديث أي فتاة وشاب مرتبطين، دائماً تجد زاوية للنقاش عن أولادهم المستقبليين، أسمائهم، عددهم، كم ذكراً وكم أنثى، الطريقة التي سينشؤون عليها، كيف سيتعلمون لغات مختلفة وكيف سيعطونهم حرية مطلقة، وما إلى ذلك. يحلمون بأنهم سيُنشئون أطفالاً بلا شوائب نفسيّة، يشبهون الملائكة بتصرفاتهم، يسامحون ويحبّون حدّ السماء، يأملون بأن يقيموا دولة أفلاطون عن طريق أطفالهم، لكن ما إن يذهب طفلهم إلى المدرسة ويعود مُحمّلاً بالدموع لأن زملاءه سخروا منه بكلمات (سمين، غبي، قصير، ضعيف) وبعض الكدمات الزرقاء التي سبّبها له أصدقاؤه، حتى يكتشفوا أن الحياة أقسى من أحلامهم، وأن يوتوبيا ليست إلاّ محض خيال، فيغرقون وسط الصراع الذي يغرق فيه كل مربٍّ: هل أربّي ابني كما تنص الأُسس النبيلة التي تلقيناها من البرامج الكرتونية وقصص الأطفال، والتي تقول إن الغفران شيمة الأقوياء، وإننا يجب أن نترفّع عن التصرفات العنيفة، وأن نكون بقمة اللطف والمحبة وكأننا جناح فراشة بيضاء؟ أم أربّيه على أسلوب المرآة، الذي يعني: من أعطاك حُبّاً أعطه حُبَّين، ومن أحسنَ إليك أحسِن إليه، من ضربك اضربه، ومن شتمك اشتمه، ومن سخر منك رُدّ عليه بالمثل!؟ تُرى أيُّ الأسلوبين سيُفضي إلى عنف؟ وأيٌّ منهما سيوفّر علينا نتائج سلبية أكثر؟

دعونا نقارن بين الأسلوبين، الشخص الذي نشأ على أسلوب المرآة سيكون صاحب ثقة عالية بنفسه، لا يُعطي سمعاً لأيّ انتقاد يوجّه له، اجتماعي ومتحدّث، وربما سيُصبح شخصية قيادية، سيخوض التجارب الجديدة بكل شغف وبلا تردد، فلا يهمّه رأي الآخرين به إن فشل، والأهم من كل هذا، لن يجرؤ أحد على أذيّته ولو بكلمة، فالجميع يعرف أنه سيردُّ بشكل قاسٍ. أمّا الشخص الثاني الذي تربّى على أساس الصفح والسكوت، فسيكون طفلاً مهزوزاً، عديم الثقة بالنفس، يخاف أن يتكلم في أيّ مجلس خوفاً من السخرية، فيصبح فاقداً للغة التواصل مع الآخرين، سيخاف من الخوض في أيّة تجربة خوفاً من الفشل وضحكات الناس عليه، ستدخل إلى غرفته ليلاً فتجده يبكي تحت لحافه ألماً ممّا يعانيه، فالألم النفسي عند الأطفال يكسر ظهورهم، لا كما نظن أنهم ينسونه عند شراء أول لعبة.

وبعد هذه المقارنة سيميل أغلبنا إلى الخيار الأول، لكن الخيار الأول لا يعني أن الطفل سيكون شريراً ومُحبّاً للعنف، على العكس، الفكرة الأساسية في هذا النوع من التربية أن لا يكون الإنسان ضحيةً ولا جلّاداً، وأن لا يؤذي ولا يُؤذى، يجب تعليم الطفل أن يدافع عن نفسه وعن الضعفاء وعن أهله، وأن يعطف على الفقير ويساعده، ويلبي كل من يستغيث به، ويحترم كل الذين يكبرونه عمراً.

إن ما سبق ذكره من سخرية وضرب وما إلى ذلك ظاهرة تُسمّى (التنمّر)، وهذا المُصطلح من المصطلحات الحديثة، لكن الظاهرة بحدِّ ذاتها قديمة وموجودة من عصر قابيل وهابيل، والتنمّر يعني قصد الإساءة المباشرة للشخص المقابل سواء بالضرب أو السخرية أو التجاهل أو عدم إشراك الشخص بنشاطات المجموعات، أو التوبيخ من دون سبب واضح، أو التحقير.

وظاهرة التنمّر لا تقتصر على الطلاب والأطفال فقط، بل إنها ترافق الإنسان حتى شيخوخته، فعندما يحسم لك مديرك نصف مرتّبك بسبب تأخّر خمس دقائق فهذا يُسمّى تنمّراً، وعندما تُصبح المرأة خادمة في منزلها فهذا تنمّر، وعندما تُمنع من الخروج للدراسة أو العمل فهو تنمّر، وعندما يهمل الأبناء والأحفاد جدّهم فهذا أيضا تنمّر، ومعاملة الرجل على أنه آلة لتصنيع النقود يُسمّى تنمراً أيضاً، ونبذ أحد أفراد العائلة بسبب دونية مادية أو ثقافية يسمى أيضاً تنمّراً.

التنمّر يؤدي إلى أمراض نفسية ومشاكل في نمط الحياة، وقد يصل بصاحبه إلى الانتحار، لذلك سلّحوا أولادكم ضدّ التنمّر وعلِّموهم أن يبقوا نبلاء، لكن عند مواجهتهم لأيّ أذى عليهم بالقصاص لأنفسهم، ولو كان قصاص كلمة أو نظرة، هذا الأسلوب لا يزيد العنف بل يُلغيه في وجه أولادنا ويُنشئ إنساناً سوياً واثقاً بنفسه وبالآخرين.

العدد 1104 - 24/4/2024