التنمر والفساد متلازمة أدت إلى احراق مئات مراكز الشرطة

سامر منصور:

مبدأ خذ حقّك بيدك، وكل السلبيات المنوطة به والتي لا مناص منها، وشريعة البحر حيث الكبير يأكل الصغير، مسائل تستفحل بشكل طبيعي بمجرّد انحسار سيادة القانون وقيم العدالة. وفي بلداننا العربية يُفرّخ العنف ويتكاثر بشكل وبائي. العنف ضدّ المرأة، العنف ضدّ الطفل، العنف ضدّ الحيوانات، والعنف المُمنهج المدروس والمُمارس من قبل الأجهزة الأمنية والشرطية التابعة للأنظمة العربية!

تنهمك الأمم والشعوب الرائدة بتطوير مناهج علوم النفس والاجتماع والتربية، ثم يأتي المسؤول العربي سواء كان أباً مسؤولاً عن أبنائه أو أستاذاً أو مسؤولاً في الجهاز التنفيذي ويُلقي بكل هذه العلوم خلف ظهره مُستخدماً الفلقة كحلّ سحري لجميع المشكلات!! وإن كان راعي الغنم يستخدم نُباح الكلاب وعصا نحيلة مجوّفة (قصبة) لقيادة القطيع، إلاّ أنه يحمل معه الناي أيضاً، بينما الأجهزة الأمنية العربية تستخدم في قيادة الشعوب العربية، إلى جانب العصا الغليظة والكلاب الناهشة، الطبول من مُحلّلين سياسيين وإعلاميين مزعومين!! إن الطابع الأبوي الوصائي الذي عاشته المجتمعات العربية منذ زمن الاحتلال العثماني إلى اليوم يُرافقه عادة متلازمة الإقصاء والتنمّر. وعدم الارتقاء بمعايير الانتساب إلى الجهاز التنفيذي والشرطة، وعدم وجود قيادات عليا حازمة تضبط العناصر والمسؤولين، أدى إلى تحويل السلطة إلى تسلّط، والتسلّط هذا ليس مجانياً في معظم الأحيان، وليس ردّ فعلٍ على أفعال المجرمين التي قد تبلغ حدّاً مزعجاً لأيّ إنسان عادي، بل هذا التنمّر والتسلّط مرتبط بالفساد، فالناس يدفعون ثمن كرامتهم وليس فقط ثمن عدم وضع العراقيل، أو الانحياز لصالحهم من قبل المسؤول الفاسد وزباينته. فالمواطن الموقوف الذي يُحضِر له ذووه وجبة طعام إلى نظارة مخفر الشرطة، غير الملزم بتقديم أيّ طعام للمحتجزين فيه، لا يصله منها إلاّ لقمة، فذوو الموقوف مُضطرون لإطعام عنصرين أو ثلاثة طعاماً فاخراً حتى يتمكّنوا من إطعام من يخصّهم، وكي لا يرفع الموقوف عقيرته تجاه سرقته وظلمه وصياغة أقواله التي لا تُصاغ بالضرورة كما هي، ويُراعى في صياغتها المبلغ الذي دُفع كرشوة من قبل الخصم، إن سبق الموقوف إلى الدفع، رغم أن الموقوف يبصم عليها في النهاية على أنها تخصّه.

التنمّر على المواطن المقترن بالظلم الذي ورثته الأنظمة العربية عن الاستبداد العثماني والاحتلال الفرنسي وأزلامهم من أبناء البلد ذاته، كل هذا يولّد مشاعر الحقد ونزعة ثورية لدى عامة الشعوب العربية. وقد رأينا في بلدان عربية كثيرة كيف، مع الأسف، أُحرقت الفروع الأمنية وأقسام الشرطة، وكيف قُتل عناصرها وذهب الصالح بالطالح. ولعلّنا نستطيع القول إن الأنظمة العربية قائمة على التنمّر، فالمرتّبات والأجور القليلة للمواطنين في دول فاحشة الثراء بالموارد والثروات الطبيعية المتنوعة كليبيا والسودان وتونس والجزائر.. الخ هو تنمّر ولصوصية في إطار السلب بالعنف مارسته قيادات معظم الأنظمة العربية التي سقطت والطبقة المُتنفّذة اللصيقة بها.

تنمّر الأنظمة العربية على شعوبها أدّى في المقام الأول إلى هجرة العقول والمتمسكين بحقهم في الكرامة وحرية التعبير. وهؤلاء رافعة للوعي الجمعي ومحور في ارتقاء المجتمع. وهجرتهم نحو دول الغرب المتقدم هو مغنم لها ومغرم عميق لأوطانهم. إن التنمّر جزء من الثقافة العربية والشخصية العربية منذ مئات السنين، والمواطن العادي الذي يُدرك أنه يعيش في مجتمع مليء باللصوص، بعضهم يرتدي الثياب العادية وبعضهم الأكثر تنمّراً يرتدي بدلة الشرطة وسائر الأجهزة الأمنية، وفي المقابل ليس هناك سوى القليل من الشرطة والأمنيين الشرفاء في مواجهة كل هذا وفي نصرة القانون بشكل حقيقي موضوعي. حتى بعض المُمرضين والأطباء في المستشفيات يمارسون التنمّر على المريض الأُمّي البسيط الذي قد يسأل أسئلة في غير محلها أو يشعرون أنه سيتعبهم. إن احتلال البسطات للأرصفة وغلاء الأسعار وضحالة رقابة التموين والاحتكار والأسواق السوداء هي من أشكال التنمّر، إن تجاهل الإعلام العربي الرسمي لآلام المواطنين والإكثار من برامج (الهشّك بشّك) وتكريس وجود المحللين السياسيين الذي يحولون الهزائم إلى انتصارات و(يُمكيجون) الموت ويريدون من الشعب الرقص والتطبيل على أطلال بلاده ودمائه بأسلوب يحوي تخويناً ضمنياً لمن يرفض ويستنكر السقوط الحضاري المهين الذي وصلنا إليه والذي لم تنجُ منه حتى آثارنا ومقابر أجدادنا، وكأن هؤلاء المحللين السياسيين ومسؤولي الأحزاب العربية الكبرى هم الوطن والوطنية ومخولون بتوزيع صكوك الغفران علينا!! إن المراقب لتصريحات المسؤولين في وزارات الخارجية العربية والمراقب للإعلام الرسمي العربي ومن في فلكه الإيديولوجي يرى تنمّراً جلياً شبيهاً بالتصريحات المُتنمّرة لترامب وغيره من (شبيحة) الدول العظمى.. مع فارق أن التنمّر العربي جعجعة بلا طحن.

أرى التنمّر ظاهرة وبائية تُحوّل المُتنمَّر عليه إلى مُتنمِّر على من هم أضعف منه وصولاً إلى الأطفال حتى في المنزل، ويمكن لأيٍّ كان من خلال مراقبة سلوك أطفال في أيّة مدرسة، معرفة ما إن كان التنمّر منتشراً في بلادهم أم لا، كون جُلّ ما يقوم به الأطفال هو تقليد ومحاكاة لسلوك وعبارات الكبار.

ولعلّ خير ما أختتم به مقالي هو ما قاله الأديب زياد العامر: (هذه البلاد هي الابنة الشرعية للكلاشنكوف، وكل ما فيها (عيار جفه) سبعة فاصلة اثنين وستين، زمامير سياراتها، أفواه خطبائها، أصابع موتاها، حناجر مطربيها، قصبات ناياتها، طول ثمارها، سنابل قمحها، كلها تملك العيار نفسه سبعة فاصلة اثنين وستين، ولا يُعتبر ياسمينها أو جوريها خارجاً عن هذه القاعدة. علينا أن نعترف، خرجنا من السبطانات وليس من أرحام نسائنا).

العدد 1102 - 03/4/2024