الصداقة والإنسانية

إيمان أحمد ونوس: 

وسط صحراء شبه قاحلة من الحياة الاجتماعية والعلاقات الإنسانية، فرضها التطور السريع والتقنيات الحديثة، واللهاث وراء المادي من الحياة، تلاشت النظرة الإنسانية إلى الأمور والعلاقات بين البشر، وغدا من يطالب أو يتحدث عن هذه الأمور(الإنسانية) وعمّا يجب أن تحافظ عليه، أو كيف يمكن أن تكون إنساناً مثالياً رومانسياً لا يمكن لطروحاته أن تتحقق، مع التأكيد على صحة هذا الطرح وصدقه وهذه النظرة إلى الحياة.

ومع هذا كله، أجدني مُصِرَةٌ وبكل قناعاتي على أن الإنسان لا يمكن أن يتحوّل إلى آلة أو جهاز تحكّم مهما تطورت وتعقّدت وتعددت التقنيات في حياتنا. فعلى الإنسان أن يبقى إنساناً بمشاعره وتعامله، لأنه هو من صنع هذه التقنيات، ويجب ألا تطغى عليه وألا تنتصر على إنسانيته وصفاء روحه وسريرته، ونقاء وجدانياته، فالإنسانية هي الهدف والغاية. والصداقة زهرة الإنسانية وإحدى مناحيها. الصداقة تلك الترنيمة الهادئة الرقيقة في فضاءات الإنسانية الرحبة. الصداقة تلك العلاقة السامية في حياتنا الاجتماعية والرابطة وثيقة العرى والألفة والتآلف بين البشر. الصداقة تراتيل ينشدها الأصدقاء فيما بينهم دون حاجة لشرحٍ وتأويل، علاقة لا تحتاج إلى تبرير كل ما يدور في أفقها، حيث يتحتّم على الصديق أن يفهم صديقه بلا كلمات ومعانٍ. لأنه قد وصل وإياه إلى هذه العلاقة (الصداقة) ولأنه يعرف مكنوناته ودوافعه وما يرمي إليه في أيّ فعلٍ يقوم به تجاه الآخر والحياة والناس.

والصداقة، كلمة مشتقة من الصدق، وهذا ما تتطلبه هذه العلاقة الإنسانية، فهو محورها وجوهرها. ومع الصديق يمكن لمشاعرنا ومرامينا أن تتجلّى دونما خجل أو وجل، نبثه مكنوناتنا لنرتاح، ولنجد صدىً لما يعتمل في نفوسنا من قهر وقلق، حزنٍ وفرح، نفكّر معه بصوتٍ عالٍ دون أن يكون هناك حرج مهما تنوع التفكير، وحَلَقَ في اتجاهاتٍ عدّة.

لكن وللأسف لا تجد هذه العلاقة الإنسانية ما تستحقه من قدسية وإخلاص في أيامنا هذه، ذلك أن علاقاتنا وعلى كل الصعد غالباً ما تخضع لقانون العرض والطلب، وقانون المادة يحكم تعاملنا مع الآخرين… فلا علاقة بلا منفعة متبادلة، ولا صداقة نزيهة راقية بلا أهداف في نظر الغالبية من المجتمع، وبالتالي لا صداقة من أجل الصداقة، ولا صدق في هذه العلاقة إلاَ بمقدار ما يحتاجه الهدف والمأرب. ونتساءل: لماذا؟

لماذا تندر في حياتنا هذه العلاقة السامية، والتي قد تكون أقوى وأعمق من أيّة علاقة اجتماعية أخرى، حتى لو كانت أسرية، وحتماً تكون الصداقة أعمق وأمتن، لأنها محضُ إرادية، لا تفرضها صلة الرحم والدم، ولا صلة الجيرة والقربى، إنما يفرضها تناغم التفكير والأحاسيس، والثقة المتبادلة، قواسمها المشتركة كثيرة، منها الفكر، الاهتمامات، النظرة للحياة وللآخرين، والأثرة في التعامل، والصدق في الطرح. ونجد ونحن في عصر التقنيات وثورات التواصل والاتصالات، أن الصداقة المقبولة والمتاحة، هي صداقة الجنس الواحد، في حين نجدها مرفوضة أو شبه مرفوضة بين الجنسين، ذلك أننا محكومون بمجتمع شرقي له عاداته وتقاليده، تلك المقولة التي تصطدم بها عند كل محاولة للتغير الاجتماعي، خاصة على صعيد التكافؤ بين الجنسين. فلا صداقة مقبولة بين الجنسين، لأنها محكومة دائماً بأن تنتهي بالحب والزواج، وإلاَ ستفشل وتتلاشى بعد ارتباط الطرفين كل منهما بزوج وقيام حياة أسرية. بل ويجب أن تنتهي حتى لا يُساء لهذه العلاقة الأسرية فيما بعد بالمنظور الاجتماعي. وحتى في إطار الزوجية ممنوع إقامة علاقة صداقة مع طرف آخر، لأن هذا ليس من شيمنا وأخلاقنا. لكن، ما الذي يمنع استمرار علاقة صداقة لكلا الطرفين بعد الزواج، بحيث يكون هذا الصديق (رجلاً أم امرأة) صديقاً للأسرة وللزوجين معاً؟ ولا أعتقد أن في هذا تطرف في الطرح، لأن جلَّ ما نتمناه أن تبقى علاقة الصداقة نقية بمراميها، صادقة بكل جوانبها بين الناس عامة، وبين الجنس الواحد أو الجنسين معاً، بحيث لا تؤول هذه العلاقة وتُتَهَم بأنها غير مقنعة وغير مقبولة في مجتمعنا. فلماذا لا نثبت لأنفسنا وللمجتمع أن الصداقة هي أسمى من كل الغايات، وأرقى بكثير من كل العلاقات عندما تكون قائمة من أجل ذاتها فقط لا لهدف آخر؟!

ذلك أن ما يُميّز الإنسان عن غيره من سائر المخلوقات والكائنات، بأنه كائن اجتماعي إنساني بتعامله وتفكيره، إن أراد أن يكون إنساناً حقاً تجاه نفسه أولاً، وتجاه الآخرين والحياة ثانياً.

العدد 1104 - 24/4/2024