عهدٌ أبديٌّ كاذب

غزل حسين المصطفى: 

عهدٌ أبدي قطعته على نفسها وقالت: سأكون إلى جانبك مدى الحياة، أشدُّ ساعدك، أعيد رسم كُحلك بعد كل ليلة عاصفة بالبكاء المرّ، أتدركين ماذا يعني أن يكون هذا الطريق شاهد على كل خطوة قطعناها معاً؟ سنُسميه كما يحلو لنا.
أتعلمين أن باب منزلي وحتى الدرج شاركنا أكثر من نصف صورنا التذكارية! وضحكتنا المجنونة أيقظت سكان البناء!!؟؟
هذا ما قالته يومذاك ونحن نعدُّ ساعاتها الأخيرة ضمن خارطة الوطن، وقد رسمنا شكلاً يرمز للقلب دوّنّا الحرف الأول من اسمينا وتعاهدنا عهداً أبدياً ألاّ تُفرقنا المسافات، وأن نسعى بشتّى السبل لنلتقي يوماً في بقعة من بقاع الأرض.
على الرغم من بساطة الموقف للبعض، ولكنه كان عندي عظيماً، فدموعي حرقت وجهي ومازال مذاقُ الألم يُعيد تكوين ذاته في ذاكرتي كلما مررتُ بتلك اللحظات.
ودّعتها الوداع ما قبل الأخير، فقد قالت لي إنها ستلحق بي بعد قليل لنمرّ على ذكرياتنا حتى نُعاهدها،
مضت عدّة ساعات ولم أسمع منها خبراً، وهاتفها كان مستمرٌاً بالرنين دون إجابة، وللمصادفة أن رقم منزلي ومنزلها متشابهين إلاّ أن الستة في رقمها تحوّلت لسبعة!!
ناري اشتعلت، ودموعي أنبتت على نحري حدائق، وعلمت أن اللقاء الأخير قد سُلب منّا بحكم عواطف لن تسمح لروحين متحدتين أن تفترقا.
بدأت أيام الغربة تُقلب في عمر فراقنا أسبوعاً تلوَ الآخر، وصارت الأسابيع أشهراً، والشوق يُذيب شراييننا، والشغف لقصِّ أدق التفاصيل لم يتغيّر، الضحكات المجنونة لم تتغيّر!!

في ليلة لم أنم فيها قبل أن أعرف عنها أدقّ الأمور فيما يتعلق بدراستها وعائلتها، ورغم أني قد أطبقت أجفاني لكن دموعي تمردت وبلّلت وسادتي خلسة!!
وعند الصباح فتحت هاتفي النقال وتبعاً لمجموعة معطيات ضمن تطبيق (الواتساب) أدركتُ أنها أنهت كل سبيل قد يوصلني إليها، فما عاد عندي وسيلة للاتصال بها وقد (حظرتني) وألغت صداقتي من صفحتها الشخصية على تطبيق (الفيسبوك) دون سابق إنذار، أو دون سبب أو مبرر تركتني وحدي أتخبط، أعيدُ شريط حياتي، وأقرأ حديثنا الأخير وما سبقه.

هل أخطأت في حقها؟
أين المشكلة؟
ما السبب؟
مرّت عليّ أصعب الليالي وأنا أفكّرُ وأحاول إيجاد سبب واحد مقنع. ومضت أيامي أطعنُ بكل عهد أبدي وبكل صديق!؟
وعلى الرغم من كل ذلك، كان لدي يقين أن سبباً ما دفعها لهذا الفعل وحال دون تواصلنا لسنوات متتالية.
خمس سنوات وأنا أعيد مسح هديتها الأولى لي وقد كانت الأخيرة كذلك وقلبي يغفر لغائبه، لم أتنازل عن فكرة وضع هديتها تلك على طاولة عملي يوماً ما.
وكما كل المصادفات التي كانت تجمعنا، كان على القدر أن يخلق مصادفة تضع لتبريراتي حدّاً يريحني ربما.
جاءت إحدى معارفنا المشتركة تقول إنها على تواصل دائم معها، وهنا كانت صدمتي، وكيف تقطعني أنا؟؟ فأرسلتُ طلباً غير مباشر عبر تلك الفتاة حتى تُعيدها للتواصل مع أصدقائها القدامى.
وبدأت أنتظر الجواب وكلّي حماس، فأنا أعرف فيروزتي جيداً، أنا غزلتها وغزالتها وغزلها وبيت السر ومتكأ الفؤاد. ذهبتُ إلى المكان الذي أضع فيه هديتها تلك فوجدتها قد سقطت وتبعثر زجاجها إلى أجزاء رحت أجمعها دون تفكير فجرحت أصابعي، ولكن كلُّ همي كان أن أعيدها لي.
ضمّدت جروحي وتلقيتُ رسالة تقول أن لا متسع في هاتفها النقّال لإضافة تطبيقات غايتها الكلام الفارغ، فما هي عليه اليوم أعظم من أحاديث أنثوية ونسوية تافهة!!
حينئذٍ فقط أدركت أنها لم تخرج من البلاد فقط، بل جُرحت بآخر شيء جمعني بها لتخرج مني هي أيضاً
ومعها كان درسي الأول في الحياة والوفاء ومعنى الصداقة ومقدار عظمة العهود.
إليها سأقول: أنا لست نادمة على كل لحظة، فقد تعلّمت الكثير، والطعنات في عود الخشب قد جعلت منه ناياً.

العدد 1104 - 24/4/2024