كلٌّ يغنّي على شطيحته!

شروق ديب ضاهر: 

كانت ألسنة اللهب تتراقص فوق جمر تنّورها، كغجرية انتشت لصوت قيثار ليلي، فأطلقت العنان لجسدها يتمايل كما أقحوانة الربيع.

حزمت الفطير المحمّر في كيس ورقي قائلة: هذه فطائرك كما طلبت، ناولتها ثمن الفطير. عافاك الله خالتي أم أحمد! كيف الأحوال؟

رمقتني بعينين لا تخلوان من بريق يعاند أخاديد وجهها المتعب، وأردفت قائلة: يا بنيتي إن كنت في حسن الحال أو ضنينه فالمآل واحد: شطيحة أرقد تحتها والسلام. عاجلتها بابتسامة بلهاء ترافقها العبارة التقليدية: أطال الله بعمرك! ما زلت ستّ الصبايا خالتي أم أحمد). أشاحت بنظرها إلى التنور وهزّت رأسها باقتضاب.

تساءلت في خلدي: ما الذي يحمل امرأة ستينية في غمرة عملها فوق التنور على التفكير بالمآل والشطيحة؟ تقافزت التساؤلات في مخيّلتي: هل هو ضنك العيش؟

أم أنه ابنها أحمد وزوجته اللئيمة؟ ربما أبو أحمد زوجها السكير؟ أو موظف التموين المنشار؟ أو… قد يكون ذاك المرض (كشّ برّا وبعيد)؟

في طريق عودتي عرجت على متجر للألبسة اعتدت ارتياده. أعجبني معطف شتوي متقن الصنع. سيد أبو ماجد، كم ثمنه؟

أجابني بصوته الأجشّ، بينما كان يطفئ لفافة التبغ ويخرج زفرة الدخان الأخيرة من منخريه الواسعتين: أربعون ألفاً! هرول حاجباي إلى ناصية شعري. أربعون ألفاً؟!

أنا أسألك عن معطف الجوخ الصيني وليس عن فستان أليسا!

اقترب مني فاتحاً شدقيه عن لوحة سريالية من الأسنان البنية والذهبية، وبدأ طوفان الأيمان الغلاظ والأقسام الثقال أن ثمنه هذا لا يتجاوز رأس ماله. ثم استطرد قائلاً: لست مضطراً للكذب فلن آخذ النقود معي، والمآل واحد: شطيحة أرقد تحتها والسلام.

هي الشطيحة ثانية، لكن هذه المرة علّقها صاحب المتجر بين ألبسته المعروضة.

طبعاً خرجت من المتجر لا أحمل في يدي إلا كيساً ورقياً فيه فطائر أم أحمد.

في المنزل وعلى مائدة الإفطار كان نصيب العائلة من جهاز التحكم في التلفاز قناة دينية اعتلى منبرها شيخ بلحية، أو بالأحرى لحية بشيخ أشهر من نار على علم بأهوائه الدينية، وأخذ على عاتقه هذه المرة مهمة الوعظ والنصح بالزهد في هذه الدنيا الغرور، فقام وقعد ثم أرغى وأزبد مذكِّراً بنار جحيم لا أظن أن صوت حسيسها وتغيُّظها يختلف كثيراً عن زمجرة حنجرته، ومن دون سابق إنذار ارتعشت شفتاه واهتزت أرنبة أنفه وافترق حاجباه بعد طول لقاء وانهمرت الدموع على لحيته الطويلة، وبنبرة صوت يضاهي صوت ترانيم الناي في الحنان ختم قائلاً: ما اعتليت هذا المنبر إلا لأذكِّر لعلّني أجزى أجر الذكرى، اعتبر يا عبد الله اعتبر فمآلنا جميعاً واحد: شطيحة نرقد تحتها والسلام! قلت في نفسي: كيف سيكون أجر هذا الشيخ لتذكيره الناس بالشطيحة في القناة؟ أهو بالريال أم بالدولار؟!

قطعت ابنتي الصغيرة تفكيري متسائلة: أمي ماذا تعني الشطيحة؟

 أجبتها بشرود: أي شطيحة؟

 شطيحة أم أحمد، أم شطيحة أبو ماجد أم شطيحة شيخ القناة؟!

في الصباح وقفت في حضرة الصرّاف الآلي، تقيّأ الجهاز حصاد الشهر مع نعية بيان الراتب، وطبعاً حُسم منه ساعات الغياب والأذونات الاضطرارية، افترّ وجهي عن ابتسامة مزاجها خبث بطعم اللامبالاة، وبعفوية لا يد لي فيها أوعزت إلى سريرتي:

(بكل الأحوال، معادلة تدبير الراتب لديّ بمجهولين، فلا ضير إن أضحت بثلاثة، ثم إن المآل واحد: شطيحة أرقد تحتها والسلام!).

 أصبحنا وأصبح الملك لله!

العدد 1104 - 24/4/2024