الفكر التنموي وأزمته المزمنة

يونس صالح: 

ما هي وظيفة الفكر؟ إن لم تكن التعامل مع الواقع بقصد تغييره نحو الأفضل؟ لقد تعلمنا من التاريخ أن أي حركة سياسية أو استراتيجية لا ترتكز على أسس فكرية قوية يكون مصيرها الإخفاق والفشل.

والملاحِظ لتجارب التنمية لدينا يدرك جيداً أن هذه التجارب تعرضت وتتعرض لانتكاسات حادة وعنيفة، هذه الانتكاسات يمكن ردها إلى مجموعة من الأسباب أهمها غياب الإطار الفكري الواضح للعملية التنموية.

فقراءة سريعة لإنتاج العقل في مجال التنمية والتخلف تكشف عن مجموعة من الظواهر السلبية التي يعانيها الفكر التنموي عندنا، والتي تؤثر على فاعليته في مواجهة الواقع القائم بما فيه من تحديات ومشاكل. هذه الظواهر السلبية التي يعانيها هذا الفكر تدفع إلى القول بأنه يعيش في أزمة حقيقية مظاهرها عديدة وأسبابها متداخلة.

 

مظاهر أزمة الفكر التنموي

الذي نعنيه بالفكر التنموي هو (إنتاج العقل في مجال التنمية والتخلف)، أي مجموعة الأطروحات الفكرية التي يقدمها المثقفون المتخصصون والمهتمون بقضايا التنمية والتخلف، بهدف كسر حلقة التخلف وتحقيق التنمية، ومن هذا المنطلق يمكن القول بأن مظاهر الأزمة بالمعنى السابق ذكره، عديدة نذكر منها:

  • الفكر التنموي، في معظمة مصبوغ بصبغة غربية أو شرقية، فهو إما إعادة صياغة باللغة العربية للأفكار التي طرحها مفكرون غربيون أو شرقيون أو ترجمة مبتورة لها.

وأكثر من ذلك فإن هذا الفكر يقدم الأطروحات الغربية أو الشرقية التي ظهرت وتظهر، والتي تخضع لعملية مراجعة باستمرار من قبل مفكري الغرب والشرق باستمرار، على أنها أحدث ما كتب في مجال التنمية والتخلف، فيكفي أن تفتح كتاباً أو رسالة جامعية في التنمية والتخلف لتقف على حقيقة المأساة.

وتغريب الفكر التنموي عندنا وتشريقه معناه غياب النظرة النقدية لأدب التنمية الغربي والشرقي، مع ملاحظة أن أدب التنمية هذا يعكس ويعبر عن الخبرة الأوربية الغربية والشرقية في التنمية، ويتضمن نوعاً من الانحياز الإيديولوجي لأحد هذين النموذجين في التنمية. ومن ثم فصلاحية نموذج تنموي معين في مجتمع معين ليس معناها صلاحيته أتوماتيكياً في مجتمع آخر، وذلك لاختلاف المجتمعات من حيث الخصائص الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية، واختلاف الظروف التاريخية والدولية التي تعيش في ظلها هذه المجتمعات، وبالتالي فالمفاهيم الواحدة تأخذ مضامين مختلفة في المجتمعات المختلفة طبقاً لخصوصية كل مجتمع وهويته الذاتية. إن تغريب الفكر التنموي أو تشريقه معناه إغفال الخصوصية الحضارية لمنطقتنا، وأي نموذج للتنمية لا يأخذ خصوصية المجتمع في الاعتبار يكون مصيره الفشل. ويأتي الانكسار النفسي والتبعية العلمية للمراجع الأجنبية بما يعنيه من عدم الثقة في الذات ليكمل هذه الدلالات.

* الفكر التنموي مقسم بالتجزئة، فالتركيز يكون على أحد جوانب العملية التنموية (سياسية، اقتصادية، اجتماعية، إدارية.. إلخ) وهذا مطلوب لزيادة التعمق في فهم مشكلات التنمية، ولكن يصبح قليل الأهمية عندما لا يرتبط بنظرية عامة للتغيير المجتمعي، وهذا هو حال الفكر التنموي عندنا. فقد عجز إلى الآن عن تقديم نظرية وإطار فكري متكامل لتطور المجتمع، لذلك تخبّطت التجارب التنموية، فظهرت حالات من النمو المشوه واللامتوازن تعكس الاختلالات داخل المجتمع وتعمقها.

  • يشهد الفكر التنموي لدينا ندرة الاهتمام بالأبحاث والدراسات الميدانية، ومثل هذه الأبحاث والدراسات تكون أكثر جدوى في فهم المشاكل التنموية وتقديم حلول لها، وتثار في هذا الصدد بعض المشاكل مثل: صعوبة الحصول على المعلومات بسبب الأمية الفعلية والتخوف التقليدي للمواطن من السلطة، علاوة على الحساسية تجاه بعض الموضوعات التي تعتبرها النخب الحاكمة من أسرار الدولة، لذلك يجب عدم دراستها وبحثها مثل موضوعات توزيع الدخل، وطريقة اختيار الأشخاص للمناصب السياسية، وعملية صنع القرار ودور المواطن فيها… إلخ.
  • وجود قطيعة بين الأفكار التي يطرحها بعض المثقفين وبرامج وسياسات التنمية التي تتبناها النخب الحاكمة، وهذا يعكس التهتّك بين النخبة الحاكمة والنخبة المثقفة عندنا.
  • بعض أبحاث التنمية تمولها هيئات وحكومات أجنبية وتثار العديد من علامات الاستفهام حول نزاهة هذه الأبحاث المشتركة. والرأي السائد أن هذه الأبحاث تهدف إلى خدمة مصالح وأهداف الجهات الممولة أكثر من خدمة واقعنا.
  • يأتي مجال التنمية السياسية ليكون بمثابة الجزء المشلول في دراسات التنمية، فباستثناء بعض المذكرات والرسائل الجامعية القليلة العدد ومجموعة المقالات المتفرقة في بعض الدوريات العلمية لا توجد اجتهادات ذات شأن في هذا الموضوع.

 

أسباب أزمة الفكر التنموي

يمكن أن نسوق مجموعة من الأسباب تتفاعل فيما بينها لتخلق أزمة الفكر التنموي:

  • معظم الدارسين لقضايا التنمية والتخلف عندنا تلقوا تعليميهم في المعاهد والجامعات الأجنبية، ومن ثم جاء فكرهم معبراً عن انتماءاتهم العلمية أكثر من تعبيرهم عن واقع بلدهم الاجتماعي، ومن هذا المنطلق لم يجد بعضهم غضاضة في طرح الأفكار والنماذج التنمية الاجتماعية، وخصوصاً الغربية منها لمواجهة مشاكل التنمية وتحدياتها.
  • تدهور مكانة المثقفين (بمعنى رجال الفكر) الذين يستطيعون تقديم حلول لمشاكل مجتمعاتهم من منطلق الخبرة التاريخية والإدراك الواعي لمتغيرات العصر، فالمثقف هو واحد من ثلاثة:
  • مساند للسلطة يصير بوقاً لها، يبرر تصرفاتها، ويدافع عن وجهة نظرها بمناسبة ودون مناسبة، وهذا لا يمكن أن ينطبق عليه مفهوم (المثقف).
  • ملتزم الصمت يسيطر عليه نوعاً من اليأس بسبب الأوضاع القائمة، ولديه ما يقوله لكنه غير مستعد لدفع الثمن.
  • مستعد لدفع الثمن إذا تعرض لما يمكن أن يمس السياسات المتبعة.

وتدهور مكانة المثقفين تثير إشكالية العلاقة بين النخبة الحاكمة والنخبة المثقفة، فالأولى لا تثق في الثانية وتنظر إليها بحذر، وهذا يؤدي إلى وجود نوع من التهتك والقطيعة بين القيادة السياسية والقيادة الثقافية.

  • ضعف وعدم فاعلية الدور الذي تقوم به الجامعات، فقد أصبحت عبارة عن أماكن لتفريخ أنصاف المتعلمين، وهذه الجامعات في عزلة عن المجتمع ومشاكله، ومن ثم لم تعد قادرة على القيام بوظيفتها المجتمعية التي تتبلور حول المساهمة في تقديم حلول لمشاكل المجتمع، ويثار في هذا الصدد العديد من التساؤلات حول نظم التعليم الجامعي، ودرجة التعاون بين الجامعات، وعلاقة هذه الجامعات بالمجتمع، إلى آخر هذه المسائل التي يجب أن يعاد النظر فيها.

كل العوامل السابقة قادت الفكر التنموي عندنا إلى طريق يبدو وكأنه مسدود، فهو تكرار للمفاهيم الخارجية، متشرذم، بعيد عن الواقع القائم بإرهاصاته وتحولاته، ومن ثم لم يعد قادراً على التأثير في هذا الواقع بقصد تغييره وتطويره.

والمطلوب هو مراجعة الذات وإعادة الحسابات على مستوى القيادة السياسية والقيادة الثقافية والجامعات والمراكز الأكاديمية بقصد وضع الأسس التي تسمح بانطلاق فكر يعكس الواقع ويسعى لتغييره نحو الأفضل.

 

العدد 1104 - 24/4/2024