واقع طفولة نخجل أن يذكره تاريخ

غزل حسين المصطفى: 

(تعالي خدي شمّة!)

أدهشها الموقف واقتربت تُحدّثه وتنصحه، لم تحملها إنسانيتها ومبادئها أن تتركه وتمشي ظنّاً أنه يشمُّ الشعلة إلى أن باغتت أنفاسها الرائحة، إنها رائحة بنزين ونحن في غمرة أزمة حقيقية تُجاهد الأنفس للحصول على بضع ليترات للسيارة، ونجد طفلاً في الشارع يحمل قارورته ويستنشق رائحته حتى بات خارج نطاق الوعي!

كيف حصلتَ عليها؟ سألته مُستغربة

أجاب: (بتتدبّر)

وكما كلُّ الحالات التي تُصادفها، حاولت أن تستوعب الموقف وتشدّ الطفل إلى برِّ الأمان، فكان شرطه الوحيد ألاّ يُضرب وغير ذلك، فهو على استعدادٍ ليكون معها ويستجيب لكلامها.

وبعد أن نشرت الحادثة على صفحتها الخاصة على موقع (الفيسبوك) تعبيراً عن ذهولها وهول المصيبة التي عاينتها، التقينا الآنسة أريج موسى (وهي ناشطة مجتمعية ومسؤولة مركز سيّار في جديدة عرطوز)، ودار الحديث التالي:

* ونحن على مشارف اليوم العالمي للطفل في الأول من حزيران، كيف ترى أريج واقع الطفولة من خلال معاينتك للواقع؟

– بعض الأطفال لم يُدرك بعد حقّه في الحياة حتى يستطيع أن يُمارس أو يعيش حقوقه المشروعة بوصفه طفلاً، لاشكّ أن الحرب غيّرت معالم الخارطة المعهودة.

* برأيك هل التوعية والنصح هما السبيل الوحيد لتجاوز الحالة؟

– أي شيء بحاجة لعدّة ركائز متينة حتى ننهض بشكل سليم، فالتوعية ركيزة من الركائز ولا تقتصر على الطفل فقط، بل الأهل وهم الحلقة الأهم إضافة إلى باقي هيئات المجتمع، ونحن اليوم في مركز (سيّار) نُركّز على عدّة محاور: (التعليم، التوعية، العلاج بالفن، النتشيط.. الخ) وربما يأخذ التعليم التركيز الأكبر لعلّنا نمحو أميّة طفل قد تُفبرَك له القصص وهو لا يدرك ذلك، لأنه لم يرَ أو لم يعرف مقعد الدراسة، بل أبصر النور على الرصيف.. إضافة إلى التوعية لما يحدث وخصوصاً أن الفكرة لم تعد تقف عند التشرّد وطلب المال من المارة، وللأسف هناك مثلاً حالة حقيقية مرّت بي تُتاجر إحداهن بابنتها، وتعود تلك الطفلة فتُحدّث قريناتها، وتضمُهن إلى شبكة الدعارة تلك.

* ونحن نستعرض هذه الحالات كيف أثّرت التوعية؟ وهل نتائجها على المدى الآني فقط؟

– أولاً: الموضوع نسبي بين كل حالة وأخرى ويعود ذلك لعدّة معطيات.

 ثانياً: استكمالاً للحديث عن تلك الطفلة في موضوع الدعارة لم نكن لنعلم بالقصة لو لم تأتِ صديقتها تروي لنا الحدث وتخبرنا عن رفضها للفكرة، لأنها تذكّرت ما قلناه لها يوماً عن هذا الموضوع.. وهذه الحالة قد تكون من العلامات المُبشّرة نوعاً ما.

كما أننا استطعنا أن نُعيد عدداً من الأطفال إلى المدرسة، ذلك أننا نحاول أن ننتشل ما استطعنا من هذا الجيل حرصاً على غدٍ آتٍ.

نحن الجيل الذي بكى على بائعة الكبريت، كان الذنب يأكلنا، كيف ماتت من شدّة البرد وهي جائعة، كم غصّت حناجرنا حين كُنّا نستذكرها على الرغم من أنها حكاية، أمّا اليوم فيفرض الواقع علينا قصصاً أبشع من بائعة الكبريت سنخجل أن نرويها يوماً، وربما نرجو التاريخ أن يحرق هذه الصفحة فنكتفي نحن بتذوق مرّها ولا نشارك من بعدنا فيما حصل.

* هل سنّ القوانين سيكون رادعاً حقيقياً؟

– في الحقيقة القانون في العلن وربما يُطبّق كأنه الشريعة المُنزّلة، لكن من سيراقب المنازل والضمائر؟ فقد سألتُ بائعاً منذ فترة خلال نشاطٍ توعوي لنا: برأيك هل من الممكن أن يقيم القانون حدّاً لفكرة تداول الشعلة مثلاً؟

أجاب بكل سخرية: (روحي عمّو روحي!) والابتسامة الصفراء تُزيّن وجهه!

كما أن بعض الأهل كانوا يتردّدون في إرسال أولادهم إلى النشاط أو يحرنموهم منه، والبعض جاء يشتكي نحن نريد لأطفالنا هذا، للأسف يرسلون فلذات أكبادهم تجوب الشوارع ولا حاجة تدفعهم لذلك إلاّ الجشع والطمع.

* يُطبّقون فكرة (بيجي الولد وبتجي رزقته معه) ولكن من منظورهم.

– نعم… للأسف هذا ما يحصل، حتى أن الموضوع لا يقف فقط على الأطفال المشرّدين، فأولئك الذين يتمتّعون بحق التعليم في كنف والديهم تحت سقف المنزل قد يعانون من بعض المشاكل ونلاحظ بعض التفاصيل التي تدل على عدم وجود حالة راحة واستقرار تامة.

* هل هناك نشاط أقيم؟ وحبّذا لو تُعمّم فكرته على نطاق واسع لتصير القضية المنصوص عليها في أهدافه تخص الجميع.

– يوماً ما أقمنا نشاطاً بعنوان (فيك تساعد) يهدف إلى بثّ التوعية لفكرة عدم إعطاء الطفل ما يطلبه من المال بحجّة حاجته إلى شيء ما، بل أن نشتريه له بدل أن نترك العملة أو النقود في يده فقد يشتري بها ما يشاء، لا ننكر أن المُدمن قد يعاني بعض الشيء ولكن نحن بحاجة إلى حل.

* إلى أين نحن نسير، أو إلى أين نريد الوصول بمركب الطفولة هذا؟

– نحن اليوم لم نعد بحاجة إلى كفّين فقط حتى نُصفّق، نحن بحاجة إلى كل الأكُف والحناجر وحتى الموارد، في سبيل إعادة هيكلة الوقائع، نُقلّم، نُربي، نبني ونُعلم معاً.. فالمسؤولية على عاتق الجميع.

العدد 1104 - 24/4/2024