العملاق الاقتصاديّ في وجه الغطرسة الرأسماليّة

ريم الحسين: 

ظهرت بوادر حرب اقتصاديّة ليست جديدة بين التنّين الصيني والهيمنة الأمريكيّة لكنها اتخذت شكلاً آخر على غير المعتاد.

ففي ١٥ أيار من العام الحالي أعلنت وزارة التجارة الأمريكية أنها ستضع شركة (هواوي) الصينية، و٦٨ شركة تابعة لها في ٢٦ دولة، على القائمة السوداء أو ما تسمَّى (قائمة الكيانات)، ما يعني أن عملاق الاتصالات الصيني لن يستطيع شراء أي معدات أو تكنولوجيا أمريكية الصنع.

هذه الخطوة التصعيدية من قبل إدارة ترامب جاءت بعد فشل المفاوضات بين أكبر اقتصادين في العالم، لإنهاء حالة الحرب التجارية المستمرة بينهما منذ حوالي تسعة أشهر، والتي هزت سلاسل التوريد العالمية، وهددت النمو الاقتصادي العالمي، بسبب التعريفات الجمركية التي وصلت إلى تريليونات الدولارات على البضائع من كلا الجانبين. إدارة ترامب قامت بهذه الخطوة لمنع شركات التكنولوجيا الصينية، ومنها شركة هواوي، من الاستفادة من المكونات التكنولوجية الأمريكية التي تدخل في الصناعة الصينية.

وكان تقرير لـ(رويترز) شكّل صدمة لمالكي هواتف المحمول الصينية التابعة لشركة هواوي في كل العالم، فقد تضمن التقرير أن شركة (غوغل) قامت بتعليق أعمالها مع شركة هواوي، ولذلك لن تتمكن شركة هواوي من استخدام برامج شركة (غوغل) الأمريكية، لأن نظام التشغيل الذي تعمل به هواتف هواوي الذكية هو (الأندرويد) المملوك لشركة غوغل، والذي تستخدمه هواوي بموجب اتفاقيات تجارية مع غوغل، وبعد هذه العقوبات فالشركات الأمريكية مجبرة على إيقاف أعمالها مع شركة هواوي، ومستخدمو هواتف هواوي الحاليين لن يتمكنوا من متابعة التحديثات لأنظمة التشغيل أندرويد، والإصدرات المستقبلية من هواتف هواوي لن تستطيع استخدام نظام الأندرويد، باستثناء النسخة مجانية المصدر والتي لا تحوي ميزات غوغل، كبرامج (غوغل بلاي، وجي ميل، وتطبيقات اليوتيوب).

هذه الخطوات التصعيدية شكلت ضربة موجعة لشركة هواوي، لأن هناك ٢.٥ مليار جهاز أندرويد نشط في العالم كما تصرح غوغل.

لمعرفة سبب العقوبات الامريكية وكيفية مواجهة الشركة لهذه العقوبات والأسلحة التي تملكها في هذه المواجهة، نعود إلى تاريخ هواوي الصينية الشركة التي بدأت تشكل خطراً على الهيمنة الأمريكية ومصدر رعب لها، ويبدو هذا جلياً بمحاربتها داخل الولايات المتحدة وخارجها.

في عام ١٩٤٤ ولد طفل يدعى (رين تشينغفي) في مقاطعة جبلية شديدة الفقر في الصين، عندما بلغ الرابعة عشرة ضربت الصين المجاعةُ الكبرى، التي بقيت تحصد أرواح الصينيين لمدة تلاثة أعوام، وكانت نتيجتها ١٤ مليون صيني ماتوا جوعاً، ولكن قُدّر لـ (رين) أن ينجو، وقد تخرّج في معهد (تشونغ تشينغ) للهندسة المدنية والمعمارية، والتحق بجيش التحرير الشعبي مهندساً، وكان عضواً منتخباً في الحزب الشيوعي الصيني قبل أن يؤسس شركة هواوي عام ١٩٨٧ ومقرها الرئيسي مدينة (تشينزن) الساحلية جنوب الصين، وهذا سبب اتهام الغرب والولايات المتحدة الامريكية لهواوي بعلاقتها بالجيش والحكومة الصينية رغم أنها شركة خاصة وملكيتها جماعية للموظفين.

ذلك أن الشركة سيطرت على السوق المحلي في الصين، وبدأت تتوسع في الخارج وتنفق كثيراً على البحث والتطوير، حتى ظهرت أخيراً بوضعها الحالي عملاقاً تكنولوجياً صينياً يبيع الهواتف الذكية وأجهزة الاتصالات في جميع أنحاء العالم، واستطاعت أن تتغلب على (آبل) الامريكية و(سامسونغ) الكورية الجنوبية اللتان تعدان الشركات الكبرى لإنتاج الهواتف الذكية في العالم، ذلك أنه في أحدث تقرير أصدرته شركة شركة أبحاث (IDC) نهاية نيسان الفائت ٢٠١٩ بخصوص نتائج الربع الأول لهذا العام، أظهر التقرير تباطؤ مبيعات آبل  بنسبة ٣٠ بالمئة، وسامسونغ بنسبة ٨ بالمئة، ولكن هواوي بالرغم من التدقيق والتضييق عليها من قبل الولايات المتحدة وحلفائها ارتفعت مبيعاتها بنسبة٥٠ بالمئة، إذ تستحوذ على ١٩ بالمئة من سوق الهواتف الذكية في العالم، وهذه أعلى نسبة على الإطلاق. التقرير يظهر أن هواوي تخطت سامسونغ بنسبة مذهلة بعد أن تخطت آبل في عام ٢٠١٨، وأصبحت شركة هواوي الأولى في المبيعات، ويأتي بعدها آبل، ثم سامسونغ وبمسافة كبيرة عن هواوي.

 إيرادات هواوي في ٢٠١٨ تخطت ١٠٠ مليار دولار لأول مرة، وتنتشر أعمالها في ١٧٠ دولة ولديها ١٩٠ ألف موظف يعملون كخلية نحل. المحللون يرجعون سر تفوق هواوي إلى ثقافتها الفريدة جداً والتي يطلق عليها (ثقافة الذئب) هذه الثقافة التي تحتوي على صفتين أساسيتين، فهي لا تعرف الخوف، وثقافة هجومية، كما أن لديهم انضباطاً صارماً، موظفوها ينامون على مكاتبهم من الإرهاق، لا يوجد لأيّ مدير أو موظف فيها سائق أو سيارة على حساب الشركة، حتى الرئيس التنفيذي نفسه، ولا يركبون الدرجة الأولى في الطيران على حساب الشركة أيضاً والتفاصيل تطول.

الأرقام والتوسع ليسا السببين الرئيسيين لتخوّف أمريكا، لكن السبب الأخطر وهو السبب الأساسي للمعاملة العدوانية والمحاولة المستميتة لسحق الشركة هو أن هواوي هي أكبر مورد للهواتف الذكية في العالم وأجهزة الاتصالات، وهي التي تقود العالم في إنشاءات البنية التحتية لأجهزة الاتصالات التي تعمل بتكنولوجيا الجيل الخامس.

تكنولوجيا الجيل الخامس (5G) هي أحدث تكنولوجيا للاتصالات في العالم، وسيبدأ العمل بها في عام ٢٠٢٠ من قبل عدة دول ومنها الصين، وستُحدث ثورة في مجال الاتصالات بما يعرف بإنترنت الأشياء، ذلك أن كل شخص وكل شيء سيصبح موصولاً بالإنترنت، أي أجهزة في أي مكان ستكون متصلة بالإنترنت حتى السيارات ذاتية القيادة وليس انتهاء بالواقع الافتراضي.

ووفق لشركة الأبحاث العالمية DELLORO فإن هواوي تمتلك ٢٨ بالمئة من السوق العالمي بفارق كبير عن منافسيها، وهي أكثر شركة لديها عقود لإنشاءات البنية التحتية ومعدات الاتصال للثورة التكنولوجية القادمة في العالم، ومعداتها ذات جودة عالية جداً وبأسعار رخيصة، وقد اكتسبت الميزة التنافسية من البحث والتطوير.

واللافت أن الشركات المنافسة لهواوي في معدات الاتصال للجيل الخامس لا توجد فيها أي شركة أمريكية، فالمنافسون هم شركة (أريكسون) السويدية و(نوكيا) الفنلندية، وشركة صينية حكومية (ZTE). وهواوي أكبر منها، وهي متقدمة كثيراً على هذه الشركات في كل شيء باستثناء شركة (SISCO) الأمريكية، لكن مشكلتها أنها توفر البنية التحتية للعملاء من المؤسسات فقط، على خلاف الشركات الأخرى ومنها هواوي.

كتب (لاري إليوت) المحرر الإقتصادي في صحيفة (الغارديان) تقريراً في ٥ أيار الفائت، رأى فيه أن على بريطانيا تعلّم الدرس من هواوي، فكيف بريطانيا التي تتمتع بميزة تكنولوجية في أجهزة الكمبيوتر والإلكترونيات أن تطلب مساعدة شركة تابعة اقتصادياً لاقتصاد يُصنّف ناشئاً لأجل أن تبني لنا جزءاً أساسياً من البنية التحتية، ويقصد هواوي الجيل الخامس.

هذه علامة على اضمحلال القوة التصنيعية لبريطانيا.

أن يكون المنافس لشركة هواوي ليس شركة (ماركوني) ولا (بليزي) البريطانيتين، وإنما أريكسون السويدية ونوكيا الفنلندية.

ويتابع: إن بريطانيا وكذلك غيرها من الدول كانت مرتاحة لترك الصناعات التحويلية منخفضة التكلفة، مثل ألعاب الأطفال والملابس، تذهب إلى الصين، ذلك أنهم افترضوا أن الصين ستبقى قنوعة بتصنيع الجينز والسلع الرخيصة، حتى أخذت الجميع إليها حتى أمريكا، وفجأة وجدناها دولة رائدة في الذكاء الصناعي والألواح الشمسية، وأجهزة الاتصالات عالية التقنية مثل معدات الجيل الخامس.

مصيبة أمريكا الحالية أن هواوي تسبق منافسيها الحاليين بدرجات كبيرة، وهي (أمريكا)على وشك أن تفقد الريادة التكنولوجية في العالم لأول مرة، وهذه أهم الأسباب لشن هذه الحرب من قبل الولايات المتحدة على هواوي داخل الولايات المتحدة وخارجها، ودأبت على تحذير حلفائها من استخدام معدات الجيل الخامس، لدرجة تهديدهم بالحظر على تبادل المعلومات الاستخباراتية مع الولايات المتحدة!

ذلك أن هناك دولاً استجابت كأستراليا ونيوزلندة، ودولاً تتعامل بحذر كاليابان وبريطانيا، ودولاً لم تاخذ تهديداتها بعين الاعتبار كفرنسا وألمانيا.

القرار الأمريكي سيؤثر على هواوي بالتأكيد، فحجم أعمالها الكبير يتناسب طرداً مع حجم المكونات الكبيرة التي تستخدمها، ومصدر جزء من هذه المكونات تدخل في صناعة معداتها، سواء الأجهزة الذكية أو معدات الاتصالات، هو الشركات الأمريكية، وبعد الحظر لن تستطيع أن تشتري هذه المكونات، ما يتطلب البحث عن موردين آخرين. هذه المكونات هي (أشباه الموصلات)، والشركات الأمريكية هي التي تسيطر على سوق أشباه الموصلات، وشركة هواوي تلتهم كمية كبيرة من أشباه الموصلات، فـ ٣٠ بالمئة من فاتورة وارداتها هي من أشباه الموصلات وبرامج وأنظمة تكنولوجية وخدمات أخرى من مايكروسوفت وغيرها.

فما الحلول الممكنة أمام هواوي لتخطي العجرفة الامريكية؟

صحيفة (الفاينينشال تايمز) نشرت تقريراً أن هواوي كانت تحضّر نفسها ليوم الحساب هذا باكراً، وكان لديها سيناريو (يوم القيامة) إذا قطعت عنها الشركات الأمريكية التوريد، وكأنها كانت على علم بأن ترامب سيمارس غباءه، وقامت ببعض الإجراءات، فلديها شركة تابعة لها تدعى (HISILICON) تصنع قطعاً معينة من أشباه الموصلات رغم أنها مازالت تعتمد على شركة تايوانية في  التصنيع، لكنها تعمل الآن وتحاول سد النقص، وبدأت منذ العام الفائت بتخزين أشباه موصلات بكميات كبيرة تكفيها لمدة عامين، وهي تتعامل مع مورّدين من غير الولايات المتحدة، إضافة إلى تحضيرها بدائل عن الشركات الأمريكية، وأنها كانت تحاول تطوير نظام تشغيل خاص بها بديل عن الأندرويد لتقوم بتشغيله على هواتفها الذكية وأجهزة الكمبيوتر. نظام التشغيل هذا تحت اسم (هونغ مينغ أو إس)، ما يعني أن مستخدمي هواوي لن يتأثروا بفقدان نظام تشغيل الأندرويد على هواتفهم الذكية.

الشركات الأمريكية متضررة أيضاً من فقدان عميل كبير مثل هواوي تستورد منها بضاعة بمليارات الدولارات، وربما ستقف في وجه قرار ترامب الأخير وتضغط عليه لرفع الحظر.

في تقرير لعملاق الخدمات الأمريكي (Goldman Sachs) أن ثلاثة من أكبر عشرة موردين لهواوي كانوا شركات أمريكية، مثلاً ٧ بالمئة من إيرادات شركة (Flex) الأمريكية من هواوي.

و ٦ بالمئة من مبيعات (Broadcom) من هواوي أيضاً، و٥ بالمئة من مبيعات (Qualcom) من هواوي أيضاً، وعشرات الشركات الأمريكية معتمدة على هواوي، ولهذا حدثت مذبحة في أسهم هذه الشركات عند وضع هواوي على القائمة السوداء، فمنها ما انخفض بقيمة ٤ إلى ٥ بالمئة، ولهذا فإن مجلس صناع تكنولوجيا المعلومات الأمريكي (ITI) الذي يمثل موردي هواوي (مثل كوالكوم، وأنتيل، ومايكروسوفت) حذّر من هذا الحظر، وأثار مخاوف بشأن قرارات الحكومة الأمريكية، وهم يطالبونها بالتقليل من الآثار والتداعيات لهذه القرارات.

فهل ستضع الصين هذه المرة حدّاً للمتعجرف الأمريكي الذي يلعب دور الشرطي في العالم ضمن جميع المجالات وينصّب نفسه قاضياً وحاكماً ووليّ الأمر، ويتدخل في السياسة والاقتصاد؟

الأيام القادمة كفيلة برسم معالم الطريق.

 

العدد 1104 - 24/4/2024