هدف محاربة العلمانية الحفاظ على التوتر وتخلف شعوبنا

بولس سركو: 

عند كل نقاش في معضلة سياسية هذه الأيام لابد أن يمتعض أحد ما من التطرق إلى عاملها الخارجي حتى لو شكل هذا العامل النسبة الأكبر من المعضلة، إن الكثيرين من الذين أصيبوا بمس ثقافة العولمة المتوحشة يرفضون الحديث بموضوعية، عن سياق تاريخي، عن مؤامرة وتآمر خارجي، ويفضلون الارتداد القهري الانفعالي إلى الذات والاجترار السوداوي الداخلي لكل مأساة المنطقة.

محاربة العلمانية أحد مظاهر هذه الخيلاء الأحادية الرائجة بالتزامن مع زهوة صعود التيار الديني الذي يبدو لأصحاب الدخل المعرفي المحدود – دون أخذهم بالحسبان قوة تأثير العامل الخارجي، صعوداً عفوياً طبيعياً مقترناً بفشل التيار العلماني.

كانت إحدى محطات النقد الذاتي للحزب الشيوعي الموحد، أحد أقدم وأهم مكونات التيار العلماني، هي قضية الموقف من الدين، وقد امتلك الرفاق الجرأة للقول بخطأ ممارسة البعض من أنصاره تجاه الدين في مرحلة معينة من تاريخ الحزب أدت إلى تقليص شعبيته، وهو موقف سياسي عقلاني علمي سليم، ولكن هل أسهمت فضيلة أخلاقية الاعتراف بالخطأ في الممارسة السياسية في التخفيف من حدة عداء التيار الديني للعلمانية؟

بالتأكيد لا تكمن المعضلة في حل عقدة الذنب من الطرف العلماني، فهي أكبر بكثير من مجرد اعتراف هذا الطرف بالخطأ رغم أهميته. تكمن المعضلة في العداء المتأصل لدى التيار الديني للعلمانية والنفخ الخارجي في نار هذا العداء، لأن غالبية القوى الدينية المؤثرة قوى متطرفة موظفة استعمارياً لمحاربة الفكر التقدمي والعلماني، للحفاظ على تخلف مجتمعاتنا. تؤكد هذه الحقيقة طبيعة خطاب هذه القوى العلني وأهدافها وسيرتها الآتية وممارساتها وكثير الكثير من الوثائق والمؤلفات، ومنها كتاب جورج قرم (نحو مقاربة دنيوية لنزاعات الشرق الأوسط ) الذي استعرض أهم الإنجازات العلمانية في القرن العشرين، وقد دعاه قرن انتصار العلمانية وازدهار الأممية من خلال تأسيس منظمة الأمم المتحدة وتجريم الاستعمار وتصفيته واندلاع ثورات جمهورية حداثوية خارج أوربا هزت البنيات الاجتماعية التقليدية المستمدة شرعيتها من العقائد والإيديولوجيات الدينية المحافظة، وغيرها من الإنجازات التي انقلبت في غضون بضعة عقود إلى استحضار القيم الدينية مجدداً والتمسك بها، وإبطال انتصار الوجهة العلمانية والتحضير لعصر قائم على استغلال الديانات لنشر العولمة المتوحشة. ويوضح الكتاب كيف هيأت الدبلوماسية البريطانية والفرنسية ثم الأمريكية لصعود التيار الديني، ومسؤوليتها المباشرة بالدرجة الأولى عن ذلك الانقلاب وزعزعة استقرار العالم وأمنه ونشر الرعب والإرهاب والفوضى، ووقف تحديث المجتمعات المتخلفة. ويتوقف الكاتب عند أهم العلامات التاريخية للدور الغربي في إنجاح تحالف آل سعود وعمامة محمد بن عبد الوهاب، وخلق الظروف المواتية لقيام سلطة ذلك التحالف وتوسعها في العالم، وفي نشوء نظام جهادي باسم دولة باكستان من انفصال مسلمي الهند بحمام دم عام 1947 م، وفي قيام دولة إسرائيل الصهيونية عام 1948م على أسس دينية يهودية تعتمد القراءة الحرفية للعهد القديم، وفي لعبة البابا يوحنا بولس الثاني في استنهاض كاثوليكية البولنديين، وفي النهج المتعصب للتوراتيين الإنجيلين الجدد المتصهينين وتأجيجهم النفور من الأخر وكراهيته للحيلولة دون إرساء الفكر العلماني التقدمي.

هذه التيارات هي التجليات الخبيثة للعولمة المتوحشة، وهي جيوش بملابس مدنية تتخذ من بيوت الفقر والجهل قواعد لها، وتتاح لها كل المنابر وشاشات الفضائيات والانترنت وحتى سلطة القانون، للعدوان على القيم العلمانية التي تحافظ على سلامة المجتمع والدولة وتضع شعبنا في مأمن من التلاعب به عبر العنصر الديني.

يؤكد الكاتب جورج قرم أنه لا حل في الشرق الأوسط دون اللجوء إلى مبادئ العلمانية ضد تفشي النزعة الاستهلاكية الناجمة عن العولمة الاقتصادية، ويرى أن العلمانية تستحق أفضل من نظر الازدراء والسطحية التي يوجهها منتقدوها، كما تستحق من أنصارها انفتاحاً فكرياً أكثر سعة لأنها علاج لكل أشكال الأصولية والتسلط الاجتماعي والسياسي والثقافي (ص158-159) وهي سد منيع أمام كل أشكال العنصرية وتجسيد للفكر الإنساني، ولذلك هي تغيظ الفكر الطوائفي وتستهجنها التيارات الدينية الأصولية وينبذها المتطرفون، ويرون فيها مصدر كل الفواحش (ص319).

العدد 1102 - 03/4/2024