لا تدعوا شريعة حمورابي تحكمنا!

إيناس ونوس:

الكثير من المقولات التَّاريخية والتّشريعات لم تعد تأخذ حيّزاً في مجتمعاتنا الحديثة نظراَ لتبدُّل العديد من المفاهيم والأفكار، إلاّ أن بعضها الآخر لمَّا يزل مُستخدَماً حتى في أيامنا هذه، ومنها شريعة حمورابي (العين بالعين والسِّن بالسِّن) التي بدل أن يأكل الدَّهر عليها ويشرب وتصبح طي النِّسيان، زيد عليها (والبادي أظلم)! مُستخدّمةً كمنطلقٍ لعملية الثَّأر التي يعيشها الإنسان العربي منذ أقدم العصور، وعلى ما يبدو أنه سيبقى مُتَّخذاً منها شعار حياته على الدَّوام!

هذا المنطلق الذي أدى إلى اندلاع الكثير من الحروب على مدار أعوام وأعوام تاريخياً، واليوم ونتيجة الحرب السُّورية يتجدَّد هذا المفهوم ويتمُّ العمل على إحيائه أكثر من ذي قبل، ظنَّاً ممّن يروجون له أو يقومون به أنه سيُفضي بهم إلى الهدوء النَّفسي والسَّكينة التي يتمنونها بعد فقدانهم لأعزّ الأشخاص وأقربهم، غير واعين أن لكلِّ فعلٍ ردَّ فعلٍ يساويه بالشِّدَّة ويعاكسه بالاتجاه، أي إن ما يقومون به لا بدَّ أن ينعكس عليهم ولو بعد حين. وعلى هذا فالحلقة المُفرغة ستبقى وستسمر دوَّامة الدَّم والقتل والبغض إلى ما لا نهاية.

يقول قائلٌ: لا يمكن لأحدٍ أن يشعر بإحساس من فقد عزيزاً، وبالتالي لا يمكن لومه على أيّ فعلٍ قد يقوم به. نعم، إنَّ الشَّطر الأول من الكلام صحيحاً، فالنَّار لا تكوي إلاّ صاحبها، غير أن تغييب العقل والانقياد فقط خلف العاطفة الهوجاء يعمل على انفلات المجتمع والعودة به إلى المجتمع البدائي غير المقونن والمنضبط، ما يؤدِّي بالضَّرورة إلى تغييب أحد أهم مقوِّمات الدَّولة المنظَّمة والعيش ضمن شرنقةٍ لا خلاص منها.

إن ما عاشه الإنسان السوري في السَّنوات الثَّماني السَّابقة، وما يعيشه اليوم أيضاً، لم يعشه ولن يعيشه إنسانٌ على وجه الخليقة، ومن هنا تأتي أهمية وضرورة الانتباه لأفعال الثَّأر التي بدأت تصبح ظاهرةً، وستغدو منهج حياةٍ إن لم يتحقق إعمال العقل وتحكيمه، لأننا في مرحلة تخبُّط وعدم استقرار تترافق مع محاولات لإعادة البناء الذي يُفترض أن يشمل الإنسان والحجر والثَّقافة والاقتصاد والتَّعليم والصِّحة … إلخ، ومن ثم إعادة إعمار البلاد برمَّتها والنُّهوض بها ممّا ألمَّ بها. ومن البديهي أن يكون المنطق والعقل هما أهم أدوات العمل على تحقيق المنشود، أمّا أن تترافق كل هذه الأدوات مع تنشيط مفهوم الثَّأر، فإن ذلك يعني أن ما يتمُّ العمل عليه ما هو إلاّ شعاراتٌ رنَّانةٌ فقط ستبقى مجرَّد فقاعاتٍ بالهواء، ولن يتحقَّق فقط إلاّ القتل المتجدِّد وستسيل الدِّماء مرَّةً أخرى ومن أماكن مختلفة، ليزيد الغرق في بحر الكراهية والبغضاء وأن يرفض بعضنا البعض الآخر ويحاربه، ولن تتمكّن البلاد من الوقوف على قدميها أبداً.

من حق كل إنسانٍ أن يصل إلى حقِّه في نهاية المطاف، لكن ليس من حقِّه أن يتصرَّف على هواه منفرداً. فإعادة الإعمار تتطلَّب عملاً جماعياً مُنظَّماً، بحيث يكون لكلٍّ مجاله المختص به. ومن هنا تنبع أهمية وجود جهاتٍ مختصَّةٍ سواء أمنيةٍ أو قانونيةٍ تعمل على تهدئة النُّفوس وإيصال الحقوق إلى أصحابها، تُساندها بذلك جهاتٌ تُعنى بالشُّؤون النَّفسية والتَّربوية، الهدف منها معالجة آثار ما حصل وتوجيه النَّاس نحو الهدف العام. أمّا أن يبقى الإنسان، بعد كل ما دفعه من أثمانٍ باهظةٍ، هدفاً للمزيد من السَّرقة والانتهاك والتَّجويع واغتيال الأحلام، وأن تبقى البلاد في منظور البعض القليل مجالاً للمزيد من تكديس الأموال والثَّروات الخاصة غير آبهين بذاك الكائن الذي يُفترض أنَّه (مواطنٌ) ولا بحقوقه وحاجاته وأولويات حياته، أو أن يكون العمل إن وجد مجرَّد عملٍ إفرادي أو نشاطٍ مؤقتٍ للبعض، فإن أموراً كالثَّأر لا بدَّ لها أن تنتشر بفجاجةٍ، انطلاقاً من مبدأ (ما من أحدٍ أخذ لي حقي، فاتركوني آخذه بيدي)! وهنا، فإن أيّ شعار مصيره الفشل والموت المُحتّم في عتمة الأدراج والمكاتب قولاً واحداً.

جميعنا نهدف ونحلم ببناء بلادنا مجدداً، إلاّ أننا أيضاً نرغب بأن يكون العمل جماعياً ومسؤولاً من قبل مؤسسات الدَّولة أولاً، لأنها النَّاظم لحياة المجتمع برمَّته، فلتمدُّوا لنا أيديكم لنعمل جميعاً من أجلنا وأجل أطفالنا، رأفةً بهذه البلاد التي دفعت الكثير والكثير من دماء أبنائها وعقولهم وتعبهم، ولا تزال تدفع ما لم يعد محمولاً ثمنه!

العدد 1104 - 24/4/2024