قـدرة المـاركسـية عـلى التـكيّـف

بولس سركو:

عام 1848 اكتشف ماركس نظاماً نظرياً عملياً ضخماً قدر له أن يحمل اسم (الماركسية) وهي فلسفة وعلم اجتماعي عبّر بدقة عن طبيعة عالم القرن التاسع عشر زمن الصناعة الكبرى والبروليتاريا الصناعية، ومتناقضاته وقضاياه، واقترحت الماركسية حلولاً عقلية جوهرية لهذه القضايا فتميزت عن سواها من العلوم الاجتماعية بالقدرة على تخطي المجتمع القديم من خلال هذه الحلول، فهل ما زالت إمكانية التخطي قائمة في الفكر الماركسي، في ظل العولمة الأمريكية اليوم والتغييرات الكبرى في الجانب التقني للصناعة الحديثة وتقلص طبقة البروليتاريا وهيمنة ثقافة غيبية وفردية وتراجع دور الأحزاب الماركسية؟

يروي الكاتب هنري لوفابر في كتابه (هذه هي الماركسية) الصادرة ترجمته في بيروت عام 1952 أنه منذ بدأ إشعاع الماركسية بدأت تتكاثر الشروح الخاطئة عنها والتفسيرات الوهمية لها بل والمغرضة، ويقدم مثالاً مقالاً نشر في (لاروس القرن التاسع عشر) قبل وفاة ماركس بعشرة أعوام أوجز الماركسية بكلمة واحدة أنها لا تعتبر الإنسان كائناً ذا حاجات متناقضة وإمكانات معقدة بل هو نوع من آلات متحركة برتابة واحدة لا تتغير. ووصف الكاتب هذا الإيجاز بتفاهات العقل المحدود والبليد، وقال: إذا كان لاروس قد توصل إلى مثل هذه السخافات، فكيف تكون كتابات أعداء الماركسية الذين يجهدون أدمغتهم لإيجاد الردود الساحقة الماحقة؟

منذ ذلك الوقت إلى اليوم نشرت عشرات آلاف السخافات حول الماركسية، وخاصة بالأقلام المأجورة لمفكري منظمة الحرية الثقافية في أوربا، بدءاً من عام 1957. أما بعد انهيار جدار برلين وخضوع العالم لهيمنة ثقافة العولمة الأمريكية المتوحشة والنشوة القصوى بانتصار أعداء الماركسية، فقد وجد اللبراليون الجدد بذلك الانهيار حجتهم الأقوى على طبق من ذهب، وصار ترديد السخافات والمباهاة بها بنوع من الثقة العالية بالنفس تقليداً يومياً.

الكاتب الأمريكي الصهيوني توماس فريدمان (عضو الجمعية الأمريكية للفلسفة) على سبيل المثال لا الحصر، قرّر، دون الشعور بالحاجة إلى تقديم الحجة ودون الاعتماد على أي مبرر، أن العولمة قد نسفت كل البدائل الإيديولوجية، فرأسمالية السوق الحرة بنظره هي النظام العالمي الأكفأ الذي لا مكان فيه لأفكار الشيوعية والاشتراكية وغيرها التي سقطت وانهارت مع سقوط جدار برلين. وبالطبع، ردّد سخافته، ببلاهة، كلُّ ناقصي المعرفة في كل أنحاء العالم، إذ إن نمط التفكير النقدي راح يتبدد تدريجياً طوال الزمن الذي أعقب سقوط الجدار، وحلّ محلّه نمط التلقين المفتقر للمساءلة والجدل، وهو النمط الشائع اليوم كأمر واقع صاغته ثقافة العولمة المتوحشة.

لكن المفارقة الغريبة العجيبة أن الماركسية، الموصوفة بالميتة أو العاجزة في أحسن الأحوال، ما تزال إلى يومنا النظرية الوحيدة الأقوى التي رصدت بدقة وموضوعية مسار تطور الرأسمالية، من العلاقات الإنتاجية المصنعية التي سادت أيام ماركس داخل بلدان الغرب المتقدمة، إلى مرحلة التوسع الدولي للرأسمالية الامبريالية واستغلال اليد العاملة الرخيصة في دول الأطراف، إلى الرأسمالية في أعلى أطوارها كما نشاهدها اليوم بشبكة علاقاتها المعقدة الواقعة تحت عنوان العولمة.

إن نظرية علمية قادرة على رصد كل حركة ذلك المسار، بكل تفاصيله وتناقضاته والنتائج الصادرة عنه، لا شك بحيويتها وقدرتها على التكيف مع المتغيرات، ومشهد العولمة السائد اليوم بكل أضداده مشهد مكشوف للماركسيين أكثر بكثير مما هو مكشوف لأي خطاب فردي أو غيبي مصروع بفعل الانقلاب الهائل في المفاهيم.

الصراع الطبقي اليوم، كما يظهر في التحليلات الماركسية المعاصرة، ليس بين أرباب العمل والبروليتاريا في نطاق الدول المتقدمة صناعياً، بل هو صراع بين أرباب الأسواق المالية العالمية، وما نسبته 80% من العاطلين المهمشين والمنبوذين في أنحاء العالم، الذين رمت بهم في المزبلة أدواتُ الإنتاج الجديدة من تكنولوجيا فائقة التطور ليست بحاجة لأكثر من كفاءة، ونشاط الـ 20% الباقين كما جاء في مقالة الرفيق الباحث الاقتصادي بشار المنيّر (عالم التوحش). وتدل الإحصائيات على التناقص الكبير المستمر في عمال الصناعة، الذي وصل إلى 14% في العقد الأول من القرن الحادي والعشرين.

إن المتابع للدراسات الماركسية المعاصرة يدرك مدى التغيير في الخطاب الماركسي وأسلوب تناوله القضايا الناشئة عن العولمة، في قطاعات الاقتصاد السياسي وعلم الاجتماع والثقافة، والطابع العالمي الجديد للتراكم الناجم عن تنفيذ الشركات متعددة الجنسيات توجهاتها في إطار إيديولوجيا العولمة وأسواقها الحرة التي تفرض علاقات متبوع وتابع غير متكافئة تخلق هوة شاسعة بين الشمال والجنوب، وتفتعل صراع حضارات بديلاً للصراع الطبقي، يفرغ احتقانات العاطلين بعضهم ببعض، فيؤمّن لبعض الوقت حصانة للنهب الدولي والمضاربات الكبرى برأس المال المالي. لكن العولمة في النهاية هي ككل الظواهر التاريخية ينطبق عليها قانون وحدة المتناقضات وصراعها، أي أنها تحمل نقيضها في داخلها، فالعلاقات الجائرة بحق ملايين ملايين الفقراء وانعدام المساواة، والحروب والغطرسة وخرق القانون الدولي وظواهر العنف والإرهاب التي خلقتها العولمة، والتوسع بالقوة على حساب شعوب ودول وأمم وسفك دماء غزيرة، كل ذلك يحرض ضدّه ونقيضه، في الزمن الذي تنبأ ماركس بوصول الرأسمالية إليه قائلاً إنها (ستسلّع كل الأشياء: الدين والفن والأدب وستسلبها قداستها).

العدد 1104 - 24/4/2024