هذا الجمر لا يترمّد.. سعد الله ونّوس في الذكرى الثانية والعشرين على غيابه

غياث رمزي الجرف:

(أرى أنّ الساحة التي ستبدأ منها معركتنا ومعركة كلّ الدول النامية ضدّ ما يسمّونه النظام العالمي الجديد هي ساحة الثقافة، ولذا أطلب وبإلحاح التفاتة جدية إلى عملنا الثقافي)

سعد الله ونوس

 

(1)

يرى (كارل ماركس) أن الفقر لا يصنع ثورة. إنما وعي الفقر (الفقير) هو الذي يصنع الثورة. الطاغية مهمته أن يجعلك فقيراً، وكاهن (أو شيخ) الطاغية مهمته أن يجعل وعيك غائباً.

فهل هذه المقولة صائبة؟ إذا كان الأمر كذلك، يكون ماركس قد ألقى على عاتق الأحزاب، التي تريد التغيير والتقدم والكرامة والعدالة الاجتماعية وبناء مجتمع إنساني يليق بالإنسان ومفردات وجوده، وعلى عاتق المثقف الحقيقي/ العضوي الذي يتحسس آلام شعبه، وينحاز إليه، ويقف بثبات مع مختلف قضاياه، ألقى مهمة هي من أعظم المهام:

*تنوير الفقير والمهمّش والمضطهَد عموماً، ومساعدته على (امتلاك) الوعي وجعله حاضراً، ومن ثم تثويره. ألم يقل لينين: إن العبد الذي يعي عبوديته ويناضل ضدها هو ثوري؟

*التصدي ومواجهة الطاغية/الدكتاتور، و(كهنته) و(شيوخه) من جميع المذاهب والمِلَل والنِحَل.. فـ (الدين) حين يتحوّل إلى عمل سياسي (سواء أكان في خدمة السلطان أم في خدمة أجندات أخرى) يصبح ذريعة لسلب حرية الإنسان، وإرغامه على الامتثال، كما يصبح وسيلة لقهر الآخرين، وتبرير استغلالهم، على حدّ تعبير عبد الرحمن منيف.

*وأرى بكثير من الوضوح – أنا كاتب هذه السطور- أنه لا بدّ، كذلك، من التصدي ومناهضة المثقف الوظيفي (مفكّر، كاتب، شاعر، أديب، صجفي، إعلامي…) التجاري، الخانع، المداهن، الغنائمي والانتهازي، الذي يوظف نفسه وصوته وقلمه في خدمة الطغاة الذين يحرصون، جميعاً، على تغييب الوعي والتحكم فيه، ويعملون في الكثير من الأحيان، إن لم نقل في كل حين، على تشكيل وعي زائف (…) وتقديس النظام القائم ومعطياته على كل صعيد، من أجل الحفاظ عليه، وعلى مصالح من يسيرون في ركابه.

 

(2)

المثقف الحَيَوِيّ العضوي غير الوظيفي (سعد الله ونّوس) قدوتنا في هذا المقام ومثالنا الذي يُحتذى به. فمواقفه، حياةً وكتابةً، واضحةٌ، صريحة، لا لبس فيها، ولا شبهة. فهو (ونّوس) لم يوظّف، في أي يوم وحتى لحظة غيابه، إبداعاته وقلمه وصوته في خدمة الطغاة والمستبدين والأقوياء والقتلة بألوان الطيف. انحاز إلى الحق والحقيقة والخير والجمال والحرية والعدالة وكرامة الحياة والأوطان، ودافع عنها بثبات وحزم واقتدار.

سعد الله ونوس كان مسكوناً حتى الانطفاء بالمسرح وبحلم التغيير وبالهّم القومي والمجتمعي والإنساني، وكان مسكوناً بهاجس تحسين مفهوم الحياة لدينا والارتقاء بقيمنا وعواطفنا ومشاعرنا وأحاسيسنا، وتطوير نظرتنا إلى الحياة والوجود والعالم. وكان مسكوناً بهاجس الإبداع الأكبر؛ هاجس إثارة الأسئلة والمكاشفة وتحريك ما يمكن تحريكه على جميع المستويات وفي المجالات كلها. وسعد الله ونوس مثقف نقدي حقيقي غير مندمج، لم يرتهن يوماً لسلطة، أو لتنظيم، أو جماعة، أو مؤسسة، أو مصلحة، أو مكافأة، أو امتياز. عمل ما استطاع إلى ذلك سبيلاً، عبر مسرحياته وكتاباته وممارساته وسلوكه الفاعل وثقافته العميقة وحياته الخلاقة من بدايتها وحتى نهايتها، عمل على صياغة مشروع نهضوي تنويري عقلاني وديمقراطي جذري وشامل، طرح من خلاله البديل الأساسي والجوهري لما هو كائن وقائم. وكان شعار سعد الله ونوس الأعلى على وجه من وجوه هو شعار المفكر إدوارد سعيد: (الحق في مواجهة السلطة)، وقد حمل صوته، فيما حمل، الكثير من الملامح التي جسّدتها شخصية (جمال الدين بن الشرائجي) الذي آمن في مسرحية (منمنمات تاريخية) بأن العقل خير من النقل، وأن الله عادل لا يقدر على عباده الفقر والذل. وأنّ هزيمة الأمة كانهيارها لا تأتي إلا من سلاطين الجور وتخاذل العلماء (المثقفين)، على حدّ تعبير الدكتور جابر عصفور.

 

(3)

إنّ الثقافة لدى سعد الله ـ وهذه مسألة تحتل من الأهمية حدّها الأقصى في نظرنا وهي عند سعد الله ونوس بمنزلة العمود الفقري ـ لم تكن وظيفية، أيْ أنّ هذه الثقافة لم تكن موظّفة في خدمة السلطة، ولم تكن مؤسسة على أساس الاندماج في الأنظمة السياسية الحاكمة والانخراط في مقولاتها وعقائدها ومشاريعها وامتيازاتها ومصالحها وخياراتها على الصعد كلها، كما لم تكن مفصّلة على قياس الحكام والسلاطين والملوك والأمراء والزعماء والجماعات والتنظيمات والمؤسسات، بل نستطيع أنْ نتقدم خطوة إلى الأمام ونقول: إنّ الثقافة لدى سعد الله تقع على طرفي نقيض من الثقافة الوظيفية، والمسافة الفاصلة بين سعد الله وثقافته، والأنظمة التسلطية وتجلياتها، هي مسافة شاسعة دونها مسافات، فالثقافة (الونوسية) عملت عبر إبداعات سعد الله وكتاباته على تنبيه الوعي وبعثه وعلى فضح كل أنواع الاستبداد وأشكاله، كما عملت على تعرية كل مفردات الأنظمة التسلطية، ومابرحت الثقافة غير الوظيفية تناوش هذه الأنظمة التسلطية وتكشف أقنعتها وآليات قمعها. وسعد الله ونوس من قبل ومن بعد كان من المثقفين الأصلاء القلائل الذين بقوا حتى لحظة رحيلهم أوفياء وفاء مطلقاً لكلمتهم، وأعطونا، عبر مسيرتهم الثقافية والإبداعية، مثالاً يحتذى في الكرامة الفكرية والأخلاقية، وهدموا بيد مباركة ذلك الجدار الملعون الفاصل بين الفكر المعلن والفكر المعيش، وإلى هذا وذاك فقد كان سعد الله ونوس طاقة إبداعية فذّة استطاعت باقتدار مميز أنْ تجمع بين الفكر والفرجة في وحدة فنية خلاقة عضوية لا انفصام فيها، بعيدة كل البعد عن أي مراوغة أو مجاملة أو مداورة أو مهادنة أو مخاتلة، أسقطت جميع أشكال الأقنعة وساعدت المتفرج/القارئ على فهم ذاته ووجوده وعالمه وواقعه وعملت على إيقاظ الوعي لديه ووضعته في مواجهة مفتوحة مع ذاته ووجوده وعالمه وواقعه السياسي والاجتماعي والثقافي. لنقرأ هذه الكلمات الجوهرية المضيئة:

إن المدجنة الحقيقية التي تفرّخ الجماعات الإسلامية هي الأنظمة العسكرية والمستبدة. فهذه الأنظمة التي خنقت روح الشعب وأغرقته بالشعارات وبالرعب، وفاقمت مشكلاته بالتبعية والنهب، هي التي تدفع هذه الأجيال الممزقة والمهمشة إلى حلول طوباوية، وإلى ردود فعل يائسة.

فحين يُخيّر إنسان مقموع ومنهوب بين إله أرضي يقمعه وينهبه ويفرض عليه فوق ذلك عبادته، وإله ديني يعده بالخلاص والمثوبة، فإن من الطبيعي أن يفرّ من زنازين الأرض إلى فضاء السماوات.

وأنا أدرك المغزى الاحتجاجي الذي ينطوي عليه ظهور هذه الجماعات، لكن فقر وعيها وأساليب العمل التي يمليها هذا الوعي الفقير، يجعل هذا الاحتجاج خلبياً؛ ويُعيد إنتاج الواقع الرثّ بدلاً من أن يغيره.

فإذا حددنا أن أبرز بواعث هذا الاحتجاج هو استبداد السلطة من جهة، والتبعية التي تخترق كل مستويات المجتمع من جهة أخرى، فإن مناهج هذه الجماعات في الفكر والعمل، إنما تقوي هذين الوضعين، وتتقاطع معهما.

هكذا جسّد سعد الله ونّوس صورة المثقف الذي نحتاج إليه في كل زمان ومكان، صورة المثقف الذي يتكلّم ليؤكد سلطة الكلام الحق، ويكون مخلصاً له، وأميناً عليه، صورة المثقف الذي لا يزهد بالحق، ولا يرتهن إلا للحقيقة والعدل والحرية والكرامة.

العدد 1104 - 24/4/2024