محنة مجتمع.. وليست محنة ثقافة ومثقفين

يونس صالح:

ستظل محنة الثقافة والمثقفين عندنا مثاراً لجدل يدور دون توقف، وسوف تبقى المشكلة كما هي، إن لم يُنظر إليها بوصفها مشكلة بنية مجتمع كامل، وقضية مصير شعب ومستقبله.

أليست الثقافة هي الهيكل الأساسي للحضارة في مختلف مظاهرها؟ أليست منهجاً ونمط حياة؟ وهل بنية المجتمع بنية اقتصادية واجتماعية فقط، مفرغة من البنية الإنسانية؟!

وما هي الحضارة، حضارة أيّ شعب؟ هل هي ما يتمتع به من طعام ومتعة وطيارات وسيارات وثلاجات وتلفزيونات ملونة وموبايلات وغيرها؟! أم هي أولاً قيم فكرية واجتماعية وأخلاقية وجمالية؟ هل تقوم الحضارة على علم وقيم، أم على كمية المتع والسلع المستهلكة؟

تساؤلات قد تفتح أمامنا بصيص ضوء على حقيقة واقعنا الذي يتسم بضحالة الثقافة وكثافة التخلف. كان تاريخنا حافلاً بالأمثلة المضيئة، فها هو ابن خلدون على قمة مسيرة الفكر العلمي المنهجي، والتقط الغرب المتخلّف آنذاك الكرة من أيدينا، أخذوا من ابن خلدون الفكر المنهجي، ومن الحسن بن الهيثم المنهج التجريبي، ثم انتقلوا بالثورة المنهجية إلى الثورة الصناعية، حتى وصلوا اليوم إلى ثورة الإنترنت والاتصالات.

بيد أننا تركنا ثورة المنهج وطريق العقل إلى ثورة الاستهلاك، أصبحنا شعبنا يستهلك الحضارة التي ينتجها الغرب، شعباً يلفّه ستارٌ كثيف من نزوات استهلاكية جنونية مفرطة، غابت معها التنمية الحقيقية، وساد نمط الاستهلاك مع قيم الكسب السريع، وغابت عن الشباب قيمة التفكير والقراءة والإبداع، وأصبحت الجامعات جزءاً لا يتجزأ من مجتمع مختل، لم تعد الجامعات كما كانت الجُزر الوارفة بالعلم.

من ذا الذي يختلف على أن الثقافة هي الهيكل الأساسي للحضارة في مختلف مظاهرها، وأنها نمط حياة يقوم على منهج، وأن المثقفين هم القاطرة التي تقود قطار الحضارة وتمضي به إلى المستقبل؟ لذا فإن لب المشكلة التي يدور حولها الجدل هو غياب هذا كله. فإذا حاولنا تصوير واقعنا الثقافي، نجد أن الهوة قد اتسعت بين المثقفين ومجتمعهم. إننا نعيش تدهوراً شمل الكثير من الميادين، وانتكاسة هائلة عميقة تكاد تفقد الشباب أمله في المستقبل، الشباب الذي يعيش الحيرة والتخبط، فقد انسدّت أمامه القنوات التي يستمد منها قيمه، بعد أن عاش مرحلة الكارثة الظلامية التي أطبقت على البلاد، والازدواجية في المواقف بين الممارسة والنظرية، فانكمش داخل تشتّته القيمي مفتقراً إلى المثل العليا.

ليس هذا فحسب، بل إن المفكرين المبدعين لا يستطيعون أن يوصلوا أصواتهم في كثير من الأحيان إلى آذان الناس، ومن ثم أصبح الفكر خاضعاً للسيطرة الثقافية والإعلامية التي يفرضها العالم الصناعي المتقدم. وهكذا حدث اختلال واضح في بنيتنا الإنسانية.

نحن نعيش سنوات معاداة الثقافة واتساع الفراغ الفكري، فلم يظهر مبدعون جدد كما ظهر في الأربعينيات والخمسينيات على سبيل المثال. لقد خلقت ظروف الأزمة الطاحنة والقهر معاً القلق والإحباط اللذين يجهضان الإبداع، وفرق بين قلق أو توتر يخصب ويشكل الإبداع، وقلق أو توتر هو نتيجة للقهر والشلل الفكري.

فليست العبقريات التي تستمد من معطيات الواقع ما يقوى على مقاومة التحديات التي تلتف حولنا، وأخطرها التفرد الثقافي، ومازال المثقف عندنا متمزق الكيان الحضاري بين مفاهيم غريبة عنه أوربية وأمريكية، تفصله عنها مساحات هائلة من التقدم العلمي المنهجي، على الرغم من أنه يعيش الحضارة الغربية في الزمن الطبيعي نفسه.

غير أن لكل ظاهرة أسبابها الموضوعية.

فما لم يؤمن المثقفون الملتزمون بأن الوحدة بينهم ضرورة لمقاومة الحواجز التي توضع أمامهم، والعقبات على طريقهم والحساسيات فيما بينهم، فلا سبيل إلى الوصول إلى عقل ذي منهج له قدرة على اتخاذ القرار، غير مستسلم لقرار وفكر الحاكم، وقادر على تحدي عوامل التبعية الخارجية.

لابد أن يدرك المثقفون أن ما يفصلهم عن العقل الأوربي هو أن الأخير عقل ينتج فكراً وعلماً، ويسير على منهج عقلي، يصدّر لنا ما ينتجه من فكر وثقافة مع ما ينتجه من سلع وتكنولوجيا، أما عندنا فهو مجرد عقل مستهلك لحضارة ينتجها الغرب، وما دمنا مجرد مستهلكين ذوي نزعات استهلاكية مفرطة يعمقها العقل الغربي المتقدم، ستظل قدرتنا على التنمية الاقتصادية والاجتماعية قاصرة.

لقد تقلصت إلى حد بعيد الحرية السياسية، فغابت معها الحيوية الثقافية، ونتج عن غياب المناخ الديمقراطي، عجز المثقف عن أن يبدع أدباً وفناً إلا في النادر، وكما قال أندريه مالرو (إن تاريخ الفن هو تاريخ الحرية).

لابد إذاً أن يقاوم المثقفون الدور الذي تلعبه المؤسسات العالمية في مجال السيطرة الفكرية والثقافية لخدمة أهداف التوسع والسيطرة الاقتصادية، إذ إنها نجحت تحت شعار (المساعدة على تطوير الكفاءة التكنولوجية في العالم الثالث) في خلق وتطوير التجانس في أنماط الاستهلاك مع أنماط العالم المتقدم الاستهلاكية، وذلك من أجل تسويق منتجاتها ومضاعفة أرباحها.

ومن البديهيات أن التنمية الاقتصادية لا تنفصل عن النهضة الثقافية التي تكرس في المواطنين فلسفة الاعتماد على النفس، وتحث على تحمل المسؤولية الكاملة دون تردد، والتي تنظر إلى التراث من منطلق إمكانية التصدي لمشكلات الحاضر وتحديات المستقبل، لا كهروب إلى أمجاد فاتت أو أوهام نصنعها بأنفسنا.

المحنة إذاً ليست محنة ثقافة أو مثقفين، ولكنها محنة مجتمع بأكمله.

 

العدد 1102 - 03/4/2024