قطاع الدولة.. والمشاريع الحيوية

يُجمع كثير من الاقتصاديين على أن القطاع الخاص، عندما تسلم إدارة البنى التحتية، لم يتفوق على القطاع العام، إلا في جني الأرباح وتحميل المواطن أعباء إضافية.

ففي الوقت الذي اعتبرت فيه كثير من دول العالم أن الاتجاه نحو الخصخصة سيفتح لها صفحة جديدة نحو أفق أكثر اتساعاً، لم تلبث أن وجدت نفسها في أزمة أخرى ناتجة عن عدم القدرة على إدارة الأزمة التي سبقتها.

ويجمع الخبراء أيضاً على أن النجاح في الخصخصة يتوقف على نوعية القطاع، فلن تنجح الحكومة على سبيل المثال في إدارة معمل للمحارم المعطرة، إلا أنه من الضروري أن تنجح في إدارة قطاعات البنى التحتية كالاتصالات والمياه والكهرباء والنفط والثروات الباطنية وغيرها.

كما يرون أن انسحاب القطاع العام من واجبه في إدارة قطاعات استراتيجية تؤمّن الاحتياجات الأساسية للمواطن، سيؤدي إلى مزيد من التدهور والفقر.

إذاً يجمع الكثير من الخبراء الاقتصاديين أنه من واجب الدولة أن تمارس وظيفتها الاجتماعية من خلال إدارة أهم شركات ومؤسسات البنى التحتية، وعدم تركها للقطاع الخاص. إن هذا الأمر يتعلق كما أشاروا بهوية الاقتصاد بشكل عام.

ولقد ثبت أن الدولة تملك قوة تنموية في المجالات الاستراتيجية المتعلقة بالصناعات الثقيلة والنفط والغاز وغيرها، وتملك سيادة بقراراتها الاقتصادية أكثر إن احتفظت بهذا النوع من الأعمال.

وإن التبرير الذي يقدم حول أن الشركات الحكومية محكومة بالفشل ولذلك فإن السير نحو الخصخصة هو عملية إنقاذ للاقتصاد ووضعه في السياق الصحيح، إن هذا التبرير ما هو سوى مغالطة للحقائق، لأنه يتجنب الحديث عن أسباب هذا الفشل، الذي يعود بأكثريته إلى الفساد والسرقات والبيروقراطية أو عدم اعتماد الدولة الربح هدفاً لمشاريعها الاقتصادية أو الخدمية، كما يفعل القطاع الخاص.

بالطبع هناك قطاعات قابلة للخصخصة، بل ومن الأفضل خصخصتها مثل شركات المنظفات ومعامل البسكويت، وبإمكان الدولة أن تتخلى عن قطاعات خدمية مثل بعض القطاعات الخدمية والصناعات التحويلية بحكم التكاليف الكبيرة، لكنها لا تستطيع التخلي عن دعم قطاعات التعليم والصحة والماء والكهرباء والنقل، وكل ما له علاقة بالاحتياجات الأساسية للمواطن.. فإن تخلّت عن ملكية هذه القطاعات فهي تدفع بالمجتمع إلى الفقر والاختلال الطبقي والجريمة.. وعلى الرغم من كلفة الدعم الكبيرة، إلا أن التخلي عن وظائف ومهام تنموية ذات أبعاد اجتماعية يحرم الدولة من قدرتها على ضبط توازنات المجتمع واتجاهات تطوره، لجهة استقطاب مجتمعي لصالح الأغنياء واتجاهات لهيمنة مشروع السوق الليبرالية.

لقد ثبت تاريخياً أن كلفة التنمية، أي الاستثمار العام في التنمية، أقل بكثير من كلفة الفقر والجريمة، وبالتالي فإن العائد الاجتماعي والتنموي من الإنفاق الحكومي والدعم للخدمات يحقق منافع أكبر بكثير من عائد الإنفاق على محاربة الفقر والجريمة والتحلل المجتمعي، كما أن التجارب أثبتت أيضاً أنه كلما تخلت الدولة عن ملكيتها الاقتصادية والاستراتيجية لصالح الرأسمال الخاص، أصبحت أكثير ضعفاً وأقل تأثيراً في الاقتصاد وفي المجتمع، وبالتالي فإنها تقترب من مشروع الدولة الرخوة التي ستحكمها منظومة الفساد المرتبطة بهيمنة الرأسمال الخاص على مفاصل وقطاعات اقتصادية وخدمية أساسية وكبيرة.

إن كلفة الدعم الحكومي لقطاع الخدمات الاجتماعية حتى وإن كانت كبيرة، ولو ارتبط بعجز الموازنة كذلك، فمن غير الممكن التخلي عنه لصالح تحرير الأسعار والخدمات والمنافسة مع القطاع الخاص.

العدد 1105 - 01/5/2024