بين نور التسامح وظلمة التعصب

يونس صالح: 

يؤرق البشرية المعاصرة اليوم موضوع التعصب، كما كان يؤرقها سابقاً.

ولقد وصلتنا بعض أقوال المفكرين العرب، ومنهم ابن منظور الذي قال في معجمه (لسان العرب): (… وتعصّب الرجلُ، أي دعا قومه إلى نصرته والتألب معه على من يناوئه، سواء كان ظالماً أو مظلوماً)، فكأن هذه الكلمة كانت تؤرقه قديماً بالقدر نفسه الذي تؤرقنا الآن، وكأنها كانت تضرب في جذور عالمه كما تفعل في عالمنا المعاصر الذي لا يكفّ عن التحولات ونحن قد دخلنا القرن الحادي والعشرين.

لقد عادت الكثير من الأمراض الوبائية، تحوصلت الجراثيم وغيّرت من صفاتها، وبذلك استطاعت ان تقاوم موجات المضادات الحيوية وأن تعود لفرض سطوتها من جديد، فهل اكتسبت جرثومة التعصب هذه الخصائص نفسها!؟

يبدو أن ذلك قد حدث بالفعل.. وإلا ما تفسير تلك الموجات المنتشرة من حركات التعصب والتطرف والإبادة التي غمرت وتغمر كل مكان في العالم، بدءاً من الحركات المتطرفة في البلدان العربية، إلى صراعات التمييز العرقي في الهند وكشمير، إلى سياسة الاقتلاع في فلسطين المحتلة وغيرها الكثير، صراعات دامية لا تهدأ ولا تريد أن تهدأ إلا بعد أن ترى الآخر مقتولاً أو مسحوقاً أو مبدداً إن موجة التعصب التي تلطمنا الآن تأتي بعد أن فقدت روحها الإيجابية حين كانت دفاعاً عن  النفس، وتجمّعاً لا مفرّ منه للذوات البشرية الضعيفة، في مواجهة طبيعة قاسية أو تسلّط طاغٍ، في محاولة للبقاء والوجود، وهو التعصب الإيجابي الذي أنبت العديد من القوميات وحافظ على ثقافتها من الضياع، وتحول إلى تعصب سلبي يهدف إلى تحقير الآخرين وسلبهم حقهم في الأفكار التي يؤمنون بها والأرض التي يعيشون عليها.

التعصّب، إذاً، هو حركة رجعية متخلفة عن عقلانية القرن التاسع عشر، وهو في حركته العشوائية المدمرة يمكن أن يضرب خلاصة القوانين والقيم التي يقوم عليها تماسك أي مجتمع من المجتمعات ويصيبه بالشروخ العميقة، وما الأفكار المتعصبة التي نسمعها إلا مجرد حجج ضبابية لتبرير عدم العقلانية والجهل والخوف من مواجهة الآخر وعدم تقبّله.

لقد كان تاريخ التعصب هو تاريخ من كان يصرّ دائماً على احتكار الحقيقة واحتكار الحق الأوحد في الحياة والبقاء، وربما كان ما مر في التاريخ البشري من آثار هذه الأزمنة هو بمثابة الإرهاصات الأولية للمجازر التي شهدها ويشهدها عالمنا المعاصر، فقد أثبتت الاختلافات الدينية والعرقية أن للثأر ذاكرة عنيدة لا يمحوها مرور الوقت ولا تبدّل الدول ولا تراكم القوانين، كان دائماً هناك احتكار للحقيقة في وقت التحولات الدينية الكبرى، وكان هناك احتكار للبقاء في وقت الأزمات الاقتصادية والمجاعات. وخلال هذه التحولات القسرية ارتدى التعصب مختلف الأقنعة وزيّن نفسه بمختلف الشعارات كي يبرر الطغيان الذي تقوم به جماعة ضد أخرى.

ولعل أقدم تاريخ للتعصب الديني يعود إلى مصر القديمة، عندما مارسه كهنة آمون سدنة الدين الرسمي ضد المتمردين عليهم من أنصار (أتون) أول دين قديم نادى بالتوحيد، منذ ذلك الوقت تشكلت ملامح التعصب الديني بين الذين يحافظون على سطوتهم ومكتسباتهم ويتّخذون من الدين ستاراً للسلطة، والثائرين الذين يطمحون إلى التغيير والتجديد.

حدث هذا أيضاً عندما ألقى أباطرة الرومان بالمسيحيين الأوائل للأسود الجائعة، ومارسه المسيحيون الأوربيون بعد ذلك ضد من خالفهم في العقيدة وأبادوا الهنود الحمر في العالم الجديد بحجة إدخالهم إلى الكاثوليكية، ونهضت محاكم التفتيش وسط ظلمات العصور الوسطى على إثر سقوط الأندلس، لحرق (الهراطقة) وإرغام بقايا المسلمين في إسبانيا على التنصّر.

وشهد التاريخ الإسلامي في الفتنة الكبرى أقصى أنواع الصراع المتعصب حين رفعت كل فئةٍ القرآن على أسنّة السيوف، وهي تزعم أنها وحدها صاحبة الحق المطلق، ومازالت هذه السيوف مشرعة حتى اليوم بشكل أو بآخر.

وقد اتخذت أشكال التعصب الديني طابعاً مؤسسياً ودولياً حين سارت جيوش الفرنجة تحت راية الصليب كي (تحرِّر) الأراضي المقدسة في فلسطين من (الكفرة). وشنّت فرنسا حملتها ضد رعاياها من البروتستانت المناهضين للمذهب الرسمي للدولة كي تجلوهم عن أرضهم وتنزع منهم ممتلكاتهم.

وفعلت إنكلترا العكس، فأَجْلَت الآلاف من الإيرلنديين الكاثوليك عن موطنهم كي تُحِلّ بدلاً منهم رعاياها البروتستانت (الطيبين).

ودائماً كان التعصب الديني قناعاً تربص خلفه تلك الأطماع البشرية التي لا تقنع إلا بالاستيلاء على ما يمتلكه الآخرون.

ولم تهدأ أيضاً الصراعات التي أثارها التعصب العرقي، بل لعلها كانت أشد عنفاً حين اتخذت من الإبادة وسيلة أساسية لتدمير الآخر دون أي فرصة للتقارب بين الأعراق.

لقد أبيدت بسبب التعصب العرقي حضارات كاملة كانت تمتلكها قبائل الآنكا والكوماتشي وغيرهما، بعد اكتشاف أمريكا على أيدي الغزاة البيض، وشهدت أوربا موجات متعاقبة من الصراعات شملت كل الأعراق والجنسيات التي عاشت في دولها، شارك الأتراك أيضاً في هذا التاريخ الدامي عندما حاولوا إبادة اليونانيين والأرمن والأكراد.

وارتفعت درجة التعصب العرقي إلى أقصى مداها مع اشتعال الحرب العالمية الثانية، حين أعلن هتلر تفوّق الجنس (الآري) مؤكداً ذلك من خلال الجيوش الألمانية التي انتهكت كل الحدود، وبواسطة أفران الغاز، التي حولت أجساد كل من يخالفهم في العرق أو الرأي إلى رماد.

ولم يكن اليهود هم فقط وقود هذه الأفران، ولكن يبدو أن آثار هذا التعصب الأعمى قد أصابتهم هم أيضاً بلعنة العمى، فأخذوا يسعون لنيل هذا الثأر من أجساد أطفال فلسطين الأبرياء.

وسط هذا الوباء من التعصب بكل أشكاله وأنواعه، هل توجد بقعة ضوء (للتسامح)؟ هل يوجد صوت خافت في صندوق (باندورا) الذي ألقى علينا كل هذا القدر من الآلام؟

لا شك أن التسامح أمر صعب، فالنفس البشرية التي جُبلت على الصراع، من الصعب أن تسلّم به كحقيقة بديهية. فلا يمكن أن تكون متسامحاً وسط مجتمع لا يتسامح معك، أو في مواجهة بيئة طبيعية تناصبك العداء. إن محاولات الفلاسفة والمفكرين لإرساء قيم التسامح هي نفسها المحاولات الدؤوب لتحويل حياتنا خارج إطار الغابة البدائية التي لا تخضع إلا لقانون البقاء للأقوى. ونحن في أمسّ الحاجة إلى التسامح، ذلك التسامح القوي، ذلك التسامح الذي لا يتحول فيه قبولنا للرأي الآخر، إلى عجز عن مواجهته، ولا يتحول التعايش مع العرقية إلى نوع من الإذعان لسيطرتها.

إن طريق التسامح طويل، لا يبدأ فقط من إعادة النظر إلى المسلمات التي تتحكم في سلوكنا كبالغين، ولكنها تبدأ أيضاً من مراقبة السلوكيات التي نزرعها في نفوس الأطفال وتزرعها مناهج الدراسة وكذلك وسائل الإعلام، إن حب العرقية والاستعلاء قد يصيبهم بمشاعر من التفوق الزائف، بحيث يتعاملون مع الآخرين كأنهم ينتمون إلى جنسيات أو أعراق أقل منهم.

إننا في حاجة ماسة إلى مراجعة مناهجنا الدراسية، وإلى استئصال الخطابات الإنشائية الوطنية الساذجة، والعمل على تفهّم الثقافات الأخرى وتذوق ما فيها من قيم جمالية وأخلاقية. إن التسامح في حقيقته تربية مستمرة، فمشاعر ضبط النفس وقبول الآخر والإدراك بأننا نعيش في عالم واحد تشترك فيه الأفكار المختلفة وتتعايش فيه الأعراق والجنسيات جنباً إلى جنب هو نوع من التسامي فوق المطامع والمصالح الضيقة، إن التسامح يقضي بأن نرى مصالحنا في إطار مصالح الآخرين.

فالعصاب- كما قال ابن منظور في لسان العرب- هو الرباط الذي يشد على العين فلا نرى من خلاله إلا الظلام.. ونحن في أمسّ الحاجة إلى بقعة من الضوء.

إن دعوة التسامح هي الأكثر قدرة والأقوى منطقاً، لسبب بسيط وواضح، هو أن التعصب يؤلّد التعصّب، والتسامح يولّد الألفة والمحبة والتعايش.

العدد 1105 - 01/5/2024