الباعوق

شروق ديب ضاهر:

نجلس خلف مكاتبنا، نمد أوراقنا، نذخر أقلامنا، نخط بمدادها سطوراً وصفحاتٍ وجرائد، يخلد الصحفي منا إلى النوم معتقداً أنه سيستيقظ على زلزال التحقيق الصحفي الذي أنجزه، فالسلطة الرابعة راقبت، السلطة الرابعة حققت وتحققت، السلطة الرابعة كتبت ونشرت، وغداً ستخرج الأرض أثقالها وتميد تحت مكاتب المسؤولين المعنيين بالتحقيق المنشور، سيختلط حابلهم بنابلهم وسيهرعون ورؤوسهم تسبق أرجلهم إلى تصويب الخطأ وتلافي التقصير ومحاسبة المقصرين. هذا ما يراه الصحفي في منامه قبل أن يوقظه هدير زوجته في الصباح تطلب منه أن يستل بطاقته الذكية ويهرع إلى ميدان المصارعة في مركز توزيع أسطوانات الغاز.

هو واقع يعيشه الصحفيون الذين يكفل الدستور والقانون سلطة أقلامهم، إذا ما كتب مدادها بمهنية وموضوعية، ويضمن حتمية الاستجابة الفورية إليها من قبل القائمين على تسيير أمور المواطنين في وطنهم، لكن يبدو أن الأقلام خرساء ولا يستطيع صريرها إلى آذان بعض المسؤولين وصولاً، علماً أنها آذان مصغية مرهفة السمع حين يكون الصرير لقلم يمتدح الإنجاز ويبجّل المنجِز، بالتالي أضحى من الضرورة بمكان أن تحلّ محلّ القلم وسيلةٌ أخرى لها القدرة على تأمين التواصل مع بعض المسؤولين، ممن جُبلت آذانهم  بطين الغرور وعجين اللامبالاة، ويجب أن تكون وسيلةً مبتكرةً ناجعة فعالة تنتمي الى بيئتنا، لأننا لو استخدمنا طبول قبائل التوتسو الإفريقية ومزاميرها الضخمة، فسيظن أصحابنا في مكاتبهم أننا نقيم احتفالاً بمناسبة وضع حجر الأساس لأحد المشاريع، وإن استخدمنا طريقة دوائر الدخان التي تستخدمها قبائل الآباتشي الهندية فسيعتقدون أن (أمّ حسين) تقوم بإيقاد تنورها تمهيداً لتحضير فطائر الصباح، أمّا الحمام الزاجل فهي وسيلة لا تختلف عن وسائل التواصل الإلكترونية في ضعفها وانعدام فائدتها.

حدثتني جدتي يوماً فيما حدثتني عن شخص في قريتنا لُقِّب في الماضي ب(الباعوق)، وهو شخص يختاره رجال القرية تتميز حنجرته بحبال صوتية مفتولة تؤمّن لصاحبها صوتاً جهورياً يفزع الطيور من وكناتها، يلجأ أهل القرية إليه في مناسبات الفرح أو الترح، فيختار أكمة مرتفعة ويطلق العنان لحنجرته باعقاً معلناً الدعوة العامة لأهالي جميع القرى المحيطة، فيوفر على أصحاب المناسبة عناء الرحلات المكوكية بين القرى لدعوة أهلها.

هذا هو الاختراع الذي تمخضت عنه حاجتنا إليه كصحفيين للتواصل مع بعض المسؤولين: الباعوق، ولا أنسب إلى نفسي حق الحصول على براءته، بل أكتفي بتقاسمها مناصفةً مع جدتي، إنه اختراع سهل التطبيق اقتصادي وفعال، يختار الصحفيون في كل جريدة زميلاً ذخرته الطبيعة بحنجرة متينة الحبال مرنة الغضاريف يعتلي سطح مؤسسته ويبدأ بالبعاق، لعلّ البعقة تبعث ضمائر البعض من قبور مكاتبهم، ولا يكلف الصحفي الباعوق مؤسسته سوى بضع ملاعق من سكر القصب يزدردها أثناء بعاقه المتواصل على سطح الجريدة خلال ساعات الدوام. لكن لكل اختراع محاسنه ومثالبه، ومثلبة اختراعي تكمن في ظاهرة الاعتياد، إذ قد يفيد البعق في البداية كونه بدعة جديدة، فيهرع المسؤول إلى تلبيته، لكن مع مرور الوقت سرعان ما يضحي صوتاً اعتيادياً لن يميزه السامع عن أصوات الباعة المتجولين في الشوارع والأزقة، ساعتئذٍ سنضحي في حاجة الى اختراع جديد ولا أظن أن جدتي ستفيدنا في الأمر شيئاً.

العدد 1104 - 24/4/2024