مشاهداتٌ من المدينة الجميلة “مدينة الحبّ”

ريم الحسين:

عشّاقٌ مزيّفون، حقيقيون، حجٌّ منذ ساعات الصّباح الأولى في مدينة اكتظّت بالسّكان، منهم من يمارس حقّه الوحيد في الشّقاء من الفجر حتّى أوائل الّليل، وجوهٌ متعبةٌ وأرواحٌ مريضةٌ، ومنهم من يعتمر الحبّ كفريضةٍ ملزمةٍ في يوم أُعدم فيه قدّيس الحبّ، ودمشق وحيدةٌ ملّت أقدام العابرين، وسؤالٌ: هل اختمرت صباحاً؟ أجل، أجل، مجرّد اقتصاص الدّمع لوجهك في دمشق أنت ثملٌ، وجوهٌ وماءٌ، اسكر ما عاد بردى، فقط تلك اللّحى الطّاهرة مموّهة الثّياب، بندقية يزيّنها علم وفاء لدمشق، فتحيا.

كلّ الشّجر المتفرّق على أرصفة دمشق اتّخذ شكل دورة الحياة، يختلط فيه الآن الأصفر والأخضر في رسمٍ إلهيٍّ مهيبٍ.. أشجارٌ عاريةٌ كأرواح المارّين على جنباتها وأشجارٌ امتلأت بالبتلات وأوراق التّويج، وأخرى تحاول خلع رداء الشّتاء والخريف وانبثاق لوريقات خضراء صغيرة تمهّد لقدوم الرّبيع، ربيع دمشق الأخضر بعد أن عانى من ربيع الإرهاب الأحمر.

أطفالٌ في عمر الزّهور يفترشون الأرض بباقات الورد الأحمر فاليوم رزقٌ لهم، هؤلاء التّجار الصّغار يتعلّمون استغلال الفرص، تجّارُ ظلم أهاليهم ومجتمعهم وتخلّي الوطن عن مسؤوليته اتجاههم، عن أيّ مدارس تتحدّثون مادام البقاء مرتبطاً ببؤسهم وأجسادهم الممزّقة كما الثّياب، صغارٌ على الحزن يا نحنُ، كبارٌ على الهمّ والشّيب يغزو الرّؤوس لن يمحو الحبّ تجاعيد الوجع ما دام الحبّ أداة لن نجده حتماً بين أصحاب السّلطة والمال وبين العابرين على آلامنا يقتنصون الصّدق ليزرعوا الموت والخراب.

بائعٌ لأغراضٍ اتفق اصطلاحاً على أهميّة تداولها كتعبيرٍ عن عاطفةٍ أو واجبٍ، ينثر أشياءَ صُنعت لتجارة الحبّ هنا وهناك على طول الزّقاق المقابل لمكانٍ كالحانة القديمة، لكنّ صدى الصّوت المنبعث من ذاك المكان يرافقك لمسافةٍ بعيدةٍ (لا بأحلامك.. لا بأوهامك.. رح ترجع يوم تلاقيني).

كان العاشق الحقيقيّ أو المتشبّه ليحصل على الّلقب/ الدّخيل، المدّعي / يُعرف من مشيته، تصرفاته، حركاته أو خوفه. اليوم، بات تمييز الزّيف أسرع من رائحته ذلك أن في دمشق عطراً حقيقيّاً لا يستوعب رائحة الزّيف.

في كلّ المداخل إلى مملكة الربّ لوحةٌ لأصدق صورة للحبّ تراها بين بندقية وعلم ورجل يمتطي حذاءه المهترئ الوحل الشّريف لا يمسحه بغيةَ مظهرٍ، يتعمّد به ونظرة من عين تكفي أيّ أنثى لتتهيّأ فراشة فتكتمل.

أنت الصّدق، أنت الحبّ.

كلّ اللّوحات الّتي يرسمها الحبّ خالدة لكن لا يمكن تجاهل التّزوير الحاصل خلال سنوات الحرب السّبع ما إن لفظت دمشق صوت الرّصاص، بالحبّ، بالانتماء، حتّى نبت زهر المجنونة وعروش الياسمين على شرفاتها ليعلن الولادة والشّهيق الأولّ بعد الحياة، مدّ زفير معاناة ولوعة عشّاقها الآفاق كأنّها هي من خذلتهم وهم يدركون جيّداً أنّ السّبب هم الدّخلاء، سكّانها ككلّ المدن السّورية لم تعد تمرّ عليهم الأعياد، فمن قابعٍ على طوابير الخبز والغاز والمواصلات وأبسط حقوق المواطنة إلى غلاء الأسعار حتّى هدايا الحبّ دخلت المزاد وأصبح البصل ينافس الورد للنجاة.

الّلون الأحمر أيضاً تعبيرٌ للنّار كما يقول العموم (جهنّم الحمراء) ويصف أيضاً الغضب الشّديد (عيناك حمراء).

وهنا تختلط علينا الألوان: دماء وعلم وحب وجهنم وغضب وإرهاب يعيشها المواطن الّذي ما عاد يفرّق بين الحبّ والكره، بين الجنّة الموعودة ولهيب وبركان الأوضاع، هل عاشت دمشق الحبّ في يوم واحد أم خانها كلّ العشّاق!؟

بدأ زمن هجرة الجراح من التّراب إلى الماء، نبت البنفسج على جراحهم إشارة الصّعود إلى السّماء، لا يدرون هل كان إهمالاً وتقصيراً من المسؤولين كما جرت العادة أم أنّ قطار الشّهادة فاتهم فعاد لهم بالمرصاد!

مدينةٌ تكتسي باللّون الأحمر عدّة مرّات كأنّه مواسم، وحدها صور الشّهداء المعرّشة على جدرانها كمتحف أبديّ تدخل موسم الحبّ مودّعة موسم الدّماء، للحبّ هذا العام موسمٌ واحدٌ لا يتغيّر بتغيّر اتجاه الرّياح وسقوط أو بزوغ أوراق الشّجر، مرتبطٌ بالعشب بالمطر، حبٌّ أضحى وطنٌ تحتضنه دمشق.

دمشق العشق الأزليّ تلتحف شهيد هو أنقى حالات الحبّ، الحبّ للأرض، أرض الموسيقا والشّغف ثيماتها واحدة على سلّم العشق الإلهيّ كآية مقدّسة يعزفها الهواء:

المجد للشّهداء، حماة الدّيار عليكم سلام.

العدد 1104 - 24/4/2024