ندور في حلقةٍ مفرغة…. ولمَّا نزل

إيناس ونوس: 

كانت في مقتبل العمر، فتاةً تتطلَّع إلى الحياة والحب والصَّداقة والإشراق، وشاءت أقدارها أن تدرس في الجامعة ويكون لديها العديد من الأصدقاء من كلا الجنسين، ما ساهم في تبلور أفكارها عن العلاقات الإنسانية الرَّاقية التي لا تحدّها حدود، رافضةً التَّأطير ضمن نطاق العلاقات المحدودة بابن البلد أو العشيرة أو الطَّائفة، وفعلاً تمكّنت من التَّوافق مع مجموعة علاقات واسعة من النَّاس مختلفة الأعراق والأديان والأفكار، ما زاد في وعيها وإدراكها لضرورة هذه العلاقات ومدى إغنائها للروح والشخصية بالمعارف والخبرات الاجتماعية. وكانت ترفض رفضاً قاطعاً أي حديثٍ له صلةٌ بالزَّواج المقونن، وتنصدم حينما تتعمّق أكثر في تفاصيل القوانين سواء المكتوبة كدستور ينظم الحياة الأسرية والاجتماعية، أو تلك التي ترتبط مباشرةً بالتَّقاليد والأعراف الاجتماعية، وترى أنه على الإنسان أن يقاوم ويناضل من أجل ما يحب ومن يحب، وأن الحب دافعٌ أساسيّ لعملية التَّغيير المجتمعي، فدخلت في تنظيماتٍ تتبنى شعاراتٍ رنانةٍ عن تحرر الإنسان وحقه في عيش حياته الشَّخصية كما يراها، وعن الحرية الشخصية التي تؤدي بدورها لتنامي وعي المجتمع، وعن تلاحم الأديان و… إلخ. وكان أصدقاؤها ومعارفها يلقبونها بـ (مارتن لوثر كينغ).

ولجت الحياة الاجتماعية بعمقها، وأخذت تفهم آلياتها ومكوناتها، ولمَّا تزل متمسِّكةً بأفكارها ومدافعةً عنها، إلاّ أنَّ حدَّة الصَّدمة أخذت تخفُّ رويداً رويداً حينما بدأت ترى وتعي ما يخالف قناعاتها ورؤاها بعد أن كانت تشكِّل لها حالةً من التَّقهقر الرُّوحي وعدم التَّصديق بأن الإنسان غير قادرٍ في بعض الحالات على مجابهة مجتمعٍ كاملٍ بأعرافه وقوانينه.

أنهت دراستها وعادت إلى بيئتها تنتظر الالتحاق بعملها الذي حلمت به طويلاً. فغابت بعض الوقت عن معارفها وحياتها، وأفكارها، وعادت بعد حينٍ وصدمت كل من حولها بزواجها من قريبٍ لها، ابن البلد والعشيرة!! وحين دخلت في مجادلاتٍ عدة مراتٍ عمّا فعلته وعن الأسباب التي دفعتها للقبول بما كانت ترفض، كانت ردودها تأتي على شاكلة (ابن البلد يحمل خصالاً اجتماعية مشتركة تُعفيني من التَّعب في محاولات إقناع الآخر بي. هذا النمط من الزَّواج يعفي الأولاد في المستقبل من مشاكل جمة هم بغنى عنها، ثم إن الإنسان مرده الأول والأخير لبيئته الأولى…” إلخ من أفكارٍ كانت بعيدةً كل البعد عنها أثناء دراستها.

وجدت أن في هذا الحل ما يُريحها من كثير من المشاكل التي ستتعرّض لها بحكم القوانين الوضعية والاجتماعية، غير آبهةٍ بما زرعته في عقول غيرها مسبقاً وحالة النُّكوص التي دفعتهم إليها لاحقاً، لأنها لم تكن تحمل تلك الأفكار عن قناعةٍ حقيقية تجعلها تتجذَّر في الأعماق لتتحوَّل نهجاً وسلوكاً، بل كانت كسحابة صيفٍ لا بدّ أن تزول بأسرع ما يمكن عند هبوب أول ريحٍ.

للأسف هذا حال غالبية مجتمعنا الذي يتطلَّع إلى التَّحرُّر والانعتاق من مفاهيم وأفكار غير متوافقةٍ مع رؤى وتطلعات مرحلة الشَّباب التي لا تأبه للقيود، إلاّ أنه وفي الوقت نفسه لا يريد أن يكون هو دافع الثَّمن وأداة التَّغيير، فالغالبية يحلمون ويطمحون بأن تصبح أفكارهم ورؤاهم حقيقة ملموسة دون أن يحمِّلوا أنفسهم عبء العمل والدِّفاع والتَّصدي، ولهذا لا نزال وسنبقى ندور في حلقةٍ مفرغةٍ لن تنتهي…

ذلك أن عملية التَّغيير في الحياة، في مختلف مناحيها تتطلّب أولاً امتلاك القناعة العميقة بأهمية هذا التَّغيير وضرورته، ومن ثم القدرة على المواجهة ودفع الثَّمن، فلا شيء يأتي دونما مقابل، والمجتمع لن يتغيّر لا بأعرافه ولا بقوانينه إن لم ينطلق العمل الحقيقي والفعَّال القادر على التَّصدي لبعض الأفكار والقوانين التي لم تعد تتناسب مع الواقع الحالي ولا مع الحياة الإنسانية الرَّاقية، وعلى مجابهة العادات والأعراف وخرقها، فهو حالة تراكمية على مدى عقود وعقود، وهي بحاجة إلى من يبدأ بها مهما كان الثَّمن حتى تُعطي النَّتائج المرجوّة منها ويتحول ما كان مُستهجناً أو مرفوضاً إلى واقع معيش وبديهي.

العدد 1104 - 24/4/2024