لم يكن الفن مستقلاً… ولن يكون

إيناس ونوس: 

اعتُمِد الفن على مر العصور وسيلةً لتعبير الإنسان عن مشاعره ورؤاه وأفكاره، لا سيما حينما يُضمَّن مجموعة من الأفكار والقيم التي تصبُّ في خدمة الإنسانية جمعاء. فكانت الفنون على شتى تنوعها منبراً مسانداً في توعية المجتمعات والنُّهوض بها من خلال الأفكار التي تطرحها أولاً، وآليات الطَّرح وطرقه ثانياً، فكانت مكمِّلةً في الكثير من الأوقات لمجموع التَّوجهات سواء السِّياسية أو الثَّقافية أو المعرفية.

وعلى هذا الأساس، كان للعاملين في حقول الفن المختلفة رؤاهم وتوجهاتهم التي عكسوها في أعمالهم، ولهذا فمن البديهي أن نلحظ الاختلاف والتَّباين بين وجهات النَّظر كحق طبيعي ومشروع لأي إنسان/ فنان، وتحديداً حين يتعلق الأمر بالشُّؤون السِّياسية وتوظيف الأعمال الفنية خدمةً لأغراضٍ سياسية.

كل هذا لا يزال أمراً طبيعياً، إذ لا بدّ من تقديم جميع وجهات النَّظر والآراء، إلاّ أن ما يُعتبر أمراً غير طبيعي أن يتبنى الفنان رؤىً وأفكاراً ومبادئ معينة في مرحلةٍ ما، ثم ينسلخ عنها في مرحلةٍ لاحقة خوفاً من العقاب أو نكوصاً وتخلياً عن معتقداته السَّابقة، مقابل البقاء تحت رعاية القبيلة أو العشيرة أو الطَّائفة، أو أن يجري تغليب المصالح الخاصة على العامة!!! هنا تكمن الطَّامة الكبرى التي تودي بآمال وأحلام جيلٍ أو أجيالٍ بأكملها، بعد أن اتخذت من مُعتنِق تلك الأفكار قدوةً ومثلاً أعلى وتبنَّتها من خلاله، ما يجعل تلك الأجيال تستيقظ على صدمةٍ كبيرةٍ ربما لا يكون لها قدرةً على تحملها، فتكون العواقب وخيمةً على الجميع!

وقد باتت هذه النماذج جدُّ واضحةً في أيامنا هذه، سواء من خلال الشَّباب الذي انخرط في التَّنظيمات الدِّينية المسلَّحة، أو الذي اختار طريقاً آخر معتمداً سلوك العبثية والعدمية في حياته.

فمن المُسبِّب؟

قد يقول قائلٌ إن المسؤولية بكاملها لا تقع على عاتق الفن والفنانين وحدهم. أقول: بكل تأكيد، إلاّ أننا جميعنا ندرك أن الأثر الذي يفعله الفن في النَّفس البشرية أكبر بكثير ممّا تفعله التَّنظيمات السِّياسية وخطاباتها الطنّانة وغيرها من آليات العمل، وإلاّ لما اعتمدت تلك التَّنظيمات على الفنون من أجل نشر معتقداتها على أوسع نطاق، ومن هنا تنبع الخطورة.

أما الخطورة الأكبر فهي أن يكون انقسام العاملين في الحقل الفني بين مؤيدٍ ومعارضٍ عاملاً أساسياً وفعّالاً في انقسام الشَّارع المتلقي _ كما حدث في الواقع السُّوري خلال سنوات الحرب _ ما أدى لخسارة الطَّرفين معاً سواء على المستوى الشَّخصي أو على المستوى العام، وبالتالي خسارة الحياة الفنية والثَّقافية السُّورية للكثير من رموزها وأعلامها، بعد مرحلةٍ من العمل الجماعي الذي أدى لإنتاجٍ متميّزٍ بنسبةٍ كبيرة وفي مختلف المجالات.

إننا نحيا في عالمٍ لا يمكن فيه فصل الفن عن كل محرِّكات الحياة ومفاصلها، وبالتالي لا يمكن للفن أن يكون بعيداً عمّا يجري أو نزيهاً بالمطلق، ونحن لا نطالب هنا إلاّ ببعض العقلانية في التَّعامل مع الأمور العامة التي تعني البلاد برمتها، من خلال امتلاك القدرة على الفصل بين المواقف الشَّخصية، التي تُعتبر حقاً لكل إنسان أن يمتلكها ويدافع عنها، فما بالنا بالفنَّان صاحب القضية؟ والعمل الجمعي الذي يعود بالفائدة على الجميع، ذلك أن تخوين أي فنان ورفضه، فقط لتبنيه موقفاً مختلفاً مع ما نتبناه لن يصب في الصَّالح العام الذي نرجوه ونتمناه لنا جميعنا ولبلادنا.

العدد 1104 - 24/4/2024