قرار الانسحاب الأمريكي في ميزان الربح والخسارة

د. صياح عزام:

القرار الأمريكي بالانسحاب العسكري من سورية كان مفاجئاً، ولم يكن بالحسبان، وذلك أن التقديرات كانت تذهب نحو وجود مستدام شمال شرق سورية، وكان الحديث يدور حول نية أمريكية لإعلان منطقة حظر طيران، مثلما حصل في شمال العراق عام 1991 وفقاً لتصريحات الموفد الأمريكي جيمس جيفري، كما أن الناطقين باسم الخارجية الأمريكية والبنتاغون في الوقت نفسه كانوا يربطون مستقبل الوجود العسكري الأمريكي في سورية بتحقيق ثلاثة أهداف هي: القضاء على داعش (حسب زعمهم)، وإنهاء الوجود الإيراني العسكري المزعوم أيضاً في سورية، وضمان ما أسموه عملية سياسية متوازنة فيها.

ولكن بالرغم من هذه التقديرات والتصريحات التي جئنا على ذكرها، أعلن البيت الأبيض فجأة عزمه على سحب قواته من سورية، منهياً بذلك – فيما لو نفذ كاملاً- وجوداً عسكرياً غير شرعي ظل موضع شد وجذب، ومصدر قلق للسوريين شعباً ودولة، وعامل تحسب لروسيا، ومنبع مخاوف لإيران، وشوكة في حلق أردوغان، وفي الوقت نفسه جاء في الإعلان أن هذا الانسحاب سينفذ خلال فترة تتراوح بين شهرين وثلاثة.

على أي حال، ورغم هذا الإعلان، يمكن القول إن الولايات المتحدة في زمن الرئيس ترامب تعطي مؤشرات في اتجاه وتذهب عكسه أحياناً، أيضاً أقلقت واشنطن العالم بتأكيدها على اقتلاع النفوذ الإيراني من سورية، وقصقصة أجنحة إيران، وتحجيم انتصارات الرئيس الروسي بوتين وتغيير القيادة السياسة السورية وحماية الأكراد.. كل هذا قالته واشنطن وظل مجرد كلام. ويجمع العديد من المحللين السياسيين على أن هذه المؤشرات المتناقضة في الأداء السياسي الأمريكي تكاد أن تصبح مدرسة بحد ذاتها قائمة على التضارب، كما يرون من جهة أخرى أن الخاسر الأكبر من قرار الانسحاب الأمريكي من سورية طرفان هما: إسرائيل، وأكراد سورية الذين لديهم اتجاهات انفصالية.

إسرائيل رددت القناة الثانية فيها عبارات وصفت القرار ب(الخيانة والطعنة في الظهر والصفقة)، وهي الأوصاف نفسها التي أطلقها أكراد سورية على الانسحاب، وما من شك بأن الممارسات العدوانية الإسرائيلية ضد سورية والتي كانت صعبة قبل القرار، باتت أكثر صعوبة بعده، إن لم نقل مستحيلة أو شبه مستحيلة، فالدعم الإيراني لسورية باق ومستمر ما دامت دمشق وطهران تريدان ذلك، والعلاقات الاستراتيجية بين البلدين متينة وفي تطور وتقدم مستمرين.

أما الضربات الإسرائيلية الاستعراضية بين الحين والآخر لمواقع سورية بذريعة أنها مواقع لقوات إيرانية أو مستودعات أسلحة لإيران ولحزب الله فلن تفلح في تحقيق أهدافها، وأكبر دليل على ذلك أن دفعة الصواريخ التي أُطلقت من طائرات إسرائيلية من الأجواء اللبنانية، أسقطت الدفاعات الجوية السورية معظمها قبل أن تصل إلى أهدافها.

أما الطرف الخاسر الثاني فهو أكراد سورية من ذوي التوجهات الانفصالية، فقد تحدث بعض مسؤوليهم عن (خيانة وطعنة في الظهر) من قبل الولايات المتحدة، وراحوا يزبدون ويرعدون ويهددون، وكأنهم لم يتعلموا الدرس من أسلافهم ولم يذعنوا لنصائح أصدقائهم عندما قالوا لهم: لا تراهنوا على الولايات المتحدة. لذلك طاش سهم هؤلاء وخابت رهاناتهم، وبالتالي يتوجب عليهم أن يعودوا إلى رشدهم وأن ينزعوا من أذهانهم التوجهات الانفصالية، علماً بأن الدولة السورية تفتح الباب دائماً لعودة أي مخطئ عن أخطائه، فالوطن يتسع للجميع، وعليهم في الوقت نفسه أن يساعدوا الجيش السوري والدولة السورية على العودة إلى مناطقهم في منبج وشرق الفرات، الأمر الذي يخلصهم من العدوان التركي المزمع شنه عليهم.

بقي أن نقول إن قرار الانسحاب هذا يشكل نصراً لسورية وحلفائها وأصدقائها لاسيما روسيا وإيران والمقاومة الوطنية اللبنانية، وأن الرئيس ترامب لم يتخذ هذا القرار إلا بعد أن أدرك أن الأمور الميدانية العسكرية والأمور السياسية تتجه في غير صالح الولايات المتحدة.

باختصار، هذا القرار الأمريكي بالانسحاب العسكري من سورية خلال فترة قصيرة- كما أشرنا- من شهرين إلى ثلاثة، هو تطور نوعي وعامل مهم في الحرب الإرهابية التي تعرضت لها سورية منذ نحو ثماني سنوات تقريباً.

أخيراً ما على المبعوث الأمريكي إلى سورية جيمس جيفري إلا أن يحزم حقائبه ويعود إلى بلاده بعد أن خذله رئيسه بهذا الشكل، ولا يستبعد أن يقدم استقالته أسوة بغيره من الوزراء وكبار الموظفين الأمريكيين إذا كانت لديه إرادة الاعتداد بالذات.

العدد 1104 - 24/4/2024