المجتمع وثورة المعلومات والاتصال

يونس صالح:

تلعب المعلومة الآن الدور نفسه الذي لعبته الآلة في الثورة الصناعية، بل إنها تضاهي أقوى الصناعات، لأنها تخاطب العقول، وتساهم في صنع القرارات، وهي بذلك تصنع ثورة جديدة هي ثورة المعلومات.

منذ آلاف السنين اعتمد الإنسان، واعتمدت المجتمعات البشرية في تواصلها مع الآخرين، على وسائل بدائية تقليدية قديمة: إشارات الدخان على الجبال، حمل الرسائل الإعلامية على الخيل، أو سيراً على الأقدام، أو عبر القوارب، أو استخدام الحمام الزاجل، كلها تلبية لحاجة الإنسان إلى التواصل، والاحتكاك، ونقل المعرفة والخبرات والعادات والتقاليد والثقافات وتبادل المنفعة وغيرها. وهي حاجة أساسية نشأت منذ نشوء المجتمعات البشرية، ورغم بدائية هذه الوسائل الإعلامية إلا أنها كانت وسائل مناسبة وملائمة لتلك العصور.

هذه الوسائل البدائية وجدت في زمن معين لمجتمعات معينة ولخدمة أغراض واحتياجات اجتماعية معينة، لكن المجتمعات تغيرت، وتغيرت معها وسائل الإعلام تغيراً بلغ حد الثورة الشاملة في هذا الحقل. ومع تطور الوسائل الإعلامية التقليدية إلى وسائل إعلامية جديدة: اختراع الطباعة، رموز مورس، وظهور الكابلات عبر المحيط، ووجود الآلة الكاتبة والسينما والإذاعة، والصورة المتلفزة والأقمار الصناعية، لم تتغير الظاهرة الاجتماعية للرغبة في التواصل الإنساني، بل أدت إلى خدمة أكبر وأكثر شمولاً، وبالتالي تعاظم دورها في عملية الإنماء الشاملة وزيادة التواصل بكل ما يحققه من أهداف اجتماعية.

إن التغيير المستمر في أي مجتمع من المجتمعات السياسية والاقتصادية والاجتماعية يحصل باستمرار، وهناك احتياجات جديدة تظهر للوجود، واحتياجات أخرى قديمة قد وفت بالمطالب وأشبعت الرغبات، ومنظمات ومؤسسات أنشئت لتدير نشاطات معينة في المجتمع، فأصبحت بعد مدة من الزمن غير فعالة وغير مؤثرة، ولضمان تأثيرها وفعاليتها يجب أن تكون سريعة الاستجابة للاحتياجات الحقيقية، وأن تتميز بقابلية التغير للوصول إلى الاحتياجات الجديدة. وللوصول إلى هذا الهدف يجب ضمان استمرار عملية التواصل وخاصة بالنسبة لهؤلاء المعتمد على خدمتهم.

لقد نمت حضارات وإمبراطوريات ونظم سياسية ومؤسسات اجتماعية وترعرعت وتقدمت، ثم اضمحل العديد منها وتفتت، وظلت وسائل الاتصال عبر العصور تزداد قوة وتزداد فعالية، من المجتمع الزراعي إلى المجتمع الصناعي حتى هذا الذي نعيشه اليوم والمعروف بالمجتمع الإعلامي.

إن وسائل الاتصال الجماهيري متصلة بالنظام الاقتصادي والسياسي والاجتماعي، وهذا التلاحم بين هذه الأنظمة في المجتمعات المختلفة قد زاد خلال القرون الأخيرة، لذلك من الضروري في هذا المجال المعاينة والبحث والتمحيص في الوسائل الإعلامية ومضمونها، فإن لم نستطع ذلك يكون بحثنا ضيقاً معزولاً، إذ من الضروري وضع وسائل الإعلام تحت المجهر بين الحين والآخر، وعندما يحدث ذلك يجب النظر إلى الصورة ككل. تجري دراسة عمليات الاتصال وتفاعل الاتصال والمجتمع دائماً من قبل الباحثين، ولكن يجب أن تدرس عمليات الاتصال كوحدة عامة وجزء من نظام اقتصادي وسياسي وتكنولوجي، وعدم نجاح الأبحاث الإعلامية اليوم يعود إلى أن عدداً كبيراً من الباحثين يرفض دراسة الاتصال ضمن إطار هذه الصلة. وإذا كان الاتصال الجماهيري هو جزء مهم من العضو الاجتماعي، فليس من الكافي أن ننظر إلى ما يحصل داخل الوسائل، ونحاول تغيير السياسات، بل علينا أن ننظر إلى خارج النظام أيضاً، خاصة الركائز، والوحدات الموجودة في المجتمع، لينهض بأفراده ومؤسساته المختلفة، ومن هذه الاحتياجات: التعليم والاعتناء بالصحة العامة والمؤسسات النقلية، البرق والبريد ومؤسسات الاتصال السلكية واللاسلكية، وواجب وسائل الاتصال الجماهيرية المختلفة من كلمة مسموعة أو مسموعة مرئية أو مكتوبة أن تواجه مسؤولياتها لهذه الاحتياجات المتعددة، لتضمن نجاح عملية إنماء المجتمع الشامل. وفي مجتمعنا السوري، فإن المبدأ الأساسي يجب أن يكون التأكيد على المشاركة لغالبية المجتمع في المشاريع الإنمائية، من حيث ضبط الحاجات والتنفيذ والمتابعة، وذلك لزيادة الخبرات والمعلومات، وتقريب الناس بعضهم من البعض الآخر في المناطق التي يعيشون فيها، ومساعدتهم في الكشف عن حضارتهم وماضيهم وكيانهم الشخصي، ودون التواصل لن يكون هناك أمل للوصول إلى الأهداف.

إن العامل المشترك بين الباحثين في مجال الاتصال هو الاتفاق على أن ما نواجهه اليوم وما نشهده أمامنا هو ثورة بكل معاني الثورة، وانقلاب جذري يعتمد اعتماداً كلياً على المعلومات، وإذا كانت الآلة قد قامت بالدور الحاسم في تقسيم العالم إلى دول صناعية متقدمة ودول زراعية نامية فقيرة، فإن المعلومات تقوم اليوم بإعادة تقسيم العالم على أساس (معلوماتي) بحيث يصبح امتلاك المعلومات من أهم المعايير التي تحكم التقدم والتخلف والسيطرة والتبعية. وفي مقابل بنوك المال والأسهم بدأت تظهر بنوك المعلومات ذات النشاط الاحتكاري، أو النفوذ الواسع والهيمنة المتعاظمة، ولم تعد الدول المتقدمة تعتمد في تقدمها وسيطرتها على الصناعات التقليدية، وإنما على الصناعات الكثيفة – المعلومات- مثل الصناعات الإلكترونية ونظم المعلومات والكمبيوتر والأقمار الصناعية.

إن ثورة الإلكترونيات هي أحدث أدوات الاتصال الإعلامي، وهذه الثورة لا شك يمكن اعتبارها انتصاراً حقيقياً للإنسانية، ومن هنا يتضح في استعمالنا لكلمة صحافة أننا نستعملها لإبراز هذه التطورات المستحدثة، فنتحدث عن الصحافة المكتوبة والصحافة المسموعة أوالمرئية، وكذلك نتحدث عن الصحافة السحرية بالنسبة للإلكترونيات، لأن هذا النوع من الصحافة كالسحر يصل في التو واللحظة.

إن الإعلام بوسائلهم المختلفة في بلادنا مدعو لأن يكون في خدمة مجتمعنا بكل تنوعه، فوسائل الإعلام لا تقتصر مهمتها على نشر الأخبار وتوزيعها، الاقتصادية منها والسياسية والاجتماعية، بل عليها ومن واجبها أن تعني عناية خاصة بالإنماء في جميع قطاعاته وفروعه: الإنماء الزراعي والإنماء الصناعي والإنماء الثقافي والإنماء التربوي، وأن تغطي وتنشر الأخبار المتعلقة بهذه القطاعات وما يستجد منها دون انقطاع.

إننا في سورية كدولة من الضروري أن تسير على طريق النمو والتقدم، من واجب الإعلام أن يوعّي المواطنين ويبصّرهم بظواهر التخلف الذي يعانيه المجتمع، ناقداً لسلبياتها، ومن جانب آخر على الإعلام أن يساعد في تلمس الطريق الذي يجب اتباعه من أجل تطوير هذه الحقول المختلفة وجعلها قطاعات متقدمة، وتبسيط المعلومات والموضوعات المعقدة حتى تصبح في متناول فهم القارئ.

إن الإعلام إذاً ووسائله المتنوعة يستطيع أن يقوم بدور فعال في المجتمع، فحين يعرف بنهضة المرأة بما هي عليه وما يجب أن تكون عليه، فإنه يشارك في عملية الإنماء الاجتماعي، وليس من العار أبداً أن يكون المجتمع أو الإنسان متخلفاً، لأن هذا التخلف غالباً ما يكون سببه ظروف معينة من ركود واستعمار أو غير ذلك، ولكن من العار ألا يعي الإنسان تخلفه وألا يعمل جاهداً على محوه، وبما أن وسائل الإعلام هي بحد ذاتها منظمات اجتماعية وجب عليها أن تكون مهتمة بمحيطها الذي تعيش فيه، والتفاعل الدائم والمستمر بين وسائل الاتصال الجماهيرية والمجتمع، يعني أن هذه الوسائل لا تؤثر فقط في المجتمعات من الناحية الاقتصادية والثقافية والسياسية والاجتماعية، ولكن في الوقت نفسه تتأثر هي بالمجتمع كذلك، وتكتسب دائماً وحدات جديدة من البيئة، وهكذا تظل العملية عملية تواصل دائمة ومستمرة. ولفهم وسائل الاتصال الجماهيري فهماً صحيحاً، علينا فهم المجتمع الذي توجد فيه هذه الوسائل الإعلامية، ولفهم المجتمع فهماً صحيحاً أيضاً، فلابد من وجود صورة واضحة عن العادات والتقاليد والتراث، وهذا يعني الإدراك والوعي الكامل والدراية بالعلوم الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والإنسانية. إن كل ذلك ضروري لفهم وسائل الاتصال ووضعها في خدمة المجتمع فعلاً وحقيقة.

العدد 1104 - 24/4/2024