الشخصية الوطنية في رواية (عرب أمريكا) للكاتبة السورية كلاديس مطر

بولس سركو :

(عرب أمريكا) الرواية الثالثة، بعد (ثورة المخمل) و(قانون مريم) صادرة عن دار عقل للنشر والدراسات والترجمة 2018 للكاتبة والباحثة كلاديس مطر، ابنة اللاذقية، التي أغنت المكتبة العربية برصيد معرفي يجمع بين الأدب والبحث النفسي والمقالة الفكرية. وتتضمن الرواية 34 فصلاً، تصور تقلبات شخصياتها الدائرة في تنين العولمة، على مسرح الحرب العدوانية المدمرة التي شنت على سورية، مسرح شاسع يمتد من قيمرية دمشق إلى لوس أنجلس إلى غازي عنتاب.

بطلة الرواية الدكتورة الجامعية أميرة من حي القيمرية الدمشقي القديم، تربّت على القيم الوطنية، شخصية صلبة واثقة من نفسها، أمن لها رصيدها المعرفي وحبها للشام حصانة في وجه المتغيرات المنهجية التي طرأت، لم تنحنِ ولم تنكفئ أو تتقوقع، بل ذهبت في التحدي إلى أقصى مداه حين غادرت دمشق لاستلام عملها الجديد في مركز للدراسات العربية في لوس أنجلس الأمريكية وهي مدركة أنها (قُبلت في المركز لغاية في نفس يعقوب).

في المركز التقت أميرة بنخبة من المثقفين العرب الأمريكيين الممسوسين بجن الدولار والتجديد الوهمي في إطار الرؤية السياسية الأمريكية للعالم، فعلى الرغم من التباين الظاهري لشخصيات المركز، لكنها كلها كانت متفقة علناً أو ضمناً على هدف تدمير سورية، وكانت هذه النخبة شريكة فعلية في التبرير النظري للعدوان بلغة تحريضية تكشف المفعول الطاغي للرسوبيات الدينية المتخفية وراء إيديولوجيات علمانية غير متجذرة في أعماقهم. وهنا يبدأ الصراع بين علمانية أميرة المبنية على القيم الوطنية الإنسانية، وعلمانية السوق الشكلانية الهشة المتمثلة بهذه النخبة من عرب أمريكا، وهو بشكل أو بآخر صراع بين الشخصية السيادية والشخصيات التابعة والمأجورة.

تظهر نتيجة تطور هذا الصراع في الرواية من هو الأبقى؟ فشخصيات المركز تتهاوى الواحدة تلو الأخرى تحت عبء ازدواجيتها وتناقضاتها، وتبقى أميرة بالحب الذي جمعها مع شاب متفق معها فكرياً ومختلف عنها في الدين، لتكون هذه هي رسالة الكاتبة كلاديس مطر التي أدارت شبكة علاقات شخصيات الرواية بخيال متدفق وبراعة وسلاسة لغوية متميزة.

رواية (عرب أمريكا) وثيقة إبداعية ملامسة لوقائع ومجريات الأحداث التي مرت على بلدنا تغطي قذارات الحرب العدوانية والدوافع الغريزية اللاعقلانية التي جرفت المشاركين بهذه الحرب، وتظهر في المقابل الروح الوطنية الممانعة والمقاومة لشعبنا في شخصية أميرة ابنة (الوطن المنهك من الظلم) التي غادرت دمشق تحت مطر صواريخ المجموعات الإرهابية المتساقطة على بيوت المدنيين العزل وفي قلبها (شغف الحضارات المعلق على شبابيك حي القيمرية)، و(وجع سورية كله مختبئ بين أضلعها) لتواجه لحظة وصولها إلى مطار لوس أنجلس أول تحديات الغربة مع ضابط المطار الذي أنهى استجوابه لمتهمة بجرم كونها سورية بالقول: (جيد أنك هنا، لا أحد يحب العيش في ظل الديكتاتورية، أم لك رأي آخر؟) فترد بقوة: (الديكتاتورية هي أن تجبر أحداً ما على أن يجيبك بالطريقة التي تريدها أنت فتجعل منه كاذباً منافقاً).

تتالت التحديات وهي تكتشف الضعف المتخفي وراء الترف الاستعراضي لشخصيات مركز الدراسات، الترف الذي هو في حقيقته ثمن احتواء هذه الشخصيات ابتداء من رئيس المركز العراقي الدكتور (فاضل الهاشمي) الذي تظاهر بالإيمان بالدولة الوطنية على قاعدة ماركسية ولكنه (ما إن دخل أمريكا حتى بدأت أحلامه تتساقط كورق الخريف … وبات يتقن كلمات المجاملة الأمريكية ويعرف كيف يلوح بقبضته المضمومة ليكيل المديح لربيع عربي دموي على شاشات الفضائيات (تاركاً ماركسيته تحتضر وراء باحات عقله الخارجية) على حد تعبير الكاتبة. الدكتور الهاشمي يعجز عن التوفيق بين بنيته الفكرية الدينية الموروثة والبنية الماركسية التي يتمظهر بها وبين البنيتين والدور المدفوع الثمن المكلف به، فيكثر من السكر لينتهي وهو يئن على بلاط الحمام فوق برازه على مقربة من سجادة الصلاة.

الدكتور المصري (إمام) الذي لا يتوقف عن ذكر كلمة (ربّنا) يعجز أيضاً عن التوفيق بين ناصرية يعتقد أنه متمسك بها بقدر تمسكه بالعودة إلى مصر، وما هو مطلوب منه في المركز، ونمط الحرية في الولايات المتحدة، فو يصدم برؤية ابنته بين أحضان شاب يهودي، فيهلل لصعود الإخوان المسلمين متحجّجاً أنها إرادة الشعب، ويعود إلى مصر ليس بالدافع الوطني وانما هارباً من صدمته. أما الفلسطيني (سمير الحوابشة) من مخيم عين الحلوة في بيروت الذي اختار لنفسه اسم (سام موريسون) خريج جامعة دمشق المتميز بابتسامة دائمة و(بابّيون) حول العنق و(بايب) في اليد، طلّق الأردنية المتدينة (هداية) التي أنجبت له ابنا يدعى (عمر)، ليتزوج بالأمريكية (نانسي) التي شغلت لفترات طويلة منصب الملحق العسكري في سفارات الولايات المتحدة الأمريكية في الإمارات ومصر، انهار عندما علم بمغادرة ابنه (عمر) أمريكا ليلتحق بالمجموعات الإرهابية في سورية، وحل الهلع محل ابتسامته رغم محاولات الدكتور الباحث الخليجي (حمد) الذي يمول مركز الدراسات بعث الطمأنينة في نفسه قائلاً باستخفاف: (ويش فيها؟ ..هاد بدل ما تشجعه وتدعيله يرجع منتصر، لو كنت مكانك لجلبت الطبل ووزعت البقلاوة .. استهدي بالله! مالك مكبّر الحكاية يا رجل؟ انشالله يرجع منتصر عالكفار! ثم ينظر إلى (أميرة) سائلاً رايك إيه يا دكتورة؟).

(كلمات (حمد) أشعرتها بالنار تأكل قلبها، أفقدتها ملامحها كامرأة ـ تطلعت بعيون مفتوحة وغضب الدنيا بان على وجهها وهي ترد: تقصد لا بأس أن يذهب إلى سورية لتدميرها؟ لا بأس أن يفقد حياته من أجل هدف تخريبي عبثي، لا بأس أن يخسر الأب ابنه في أرض لم يزرها مرة واحدة وارتباطه الوحيد بها أنه مسلم؟).

راحت (أميرة) تتساءل: (كم من هذا الحمد يجاهدون لتدمير سورية عن بكرة أبيها فيستحقوا صعوداً عجائبياً إلى جنة تعج بالنساء) ومرت بذاكرتها صور (غرباء لا تعرفهم ولا يعرفونها يحملون رايات التحرير السوداء (تحرير) الشام العزيزة الكريمة من أيدي أهلها).

في معظم فصول الرواية تواجه (أميرة) وحيدة شخصيات مبتذلة راحت في عقد نقصها إلى أبعد مدى من التماهي مع (السيد) الأمريكي المتسلط قبل أن يجمعها نسيم الحب مع شخصية تحمل هواجسها الوطنية نفسها، في وقت كانت تنهال (سكاكين الأخوة والأهل والجيران على سورية) و(تفتح بوابات الجحيم) و(دول تتكاثر عليها مثل الكلاب الهائجة) و(حمد) يراقص صديقه المثلي متمايلاً على أنغام موسيقا الجاز، والدمشقية المنشقة (مرام) (تعالج فجائعها بالمساحيق والزينة والمجوهرات كما تفعل بجسدها). والإرهابي (عمر) العائد هارباً من دولة الخلافة يقع في قبضة الشرطة، وحدها أميرة التي حفظت كرامتها وكرامة وطنها وناسها بقيت شامخة وسط المسرح كوجه زنوبيا التدمري، يناطح الزمن بصلابته.

(*) كل الجمل بين قوسين منقولة من الراوية.

العدد 1102 - 03/4/2024